جواهر ستار التعليمية |
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم ، في منتديات جواهر ستار التعليميه المرجو منك أن تقوم بتسجـيل الدخول لتقوم بالمشاركة معنا. إن لم يكن لـديك حساب بعـد ، نتشرف بدعوتك لإنشائه بالتسجيل لديـنا . سنكون سعـداء جدا بانضمامك الي اسرة المنتدى مع تحيات الإدارة |
جواهر ستار التعليمية |
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم ، في منتديات جواهر ستار التعليميه المرجو منك أن تقوم بتسجـيل الدخول لتقوم بالمشاركة معنا. إن لم يكن لـديك حساب بعـد ، نتشرف بدعوتك لإنشائه بالتسجيل لديـنا . سنكون سعـداء جدا بانضمامك الي اسرة المنتدى مع تحيات الإدارة |
|
جواهر ستار التعليمية :: منتدى جواهر الأدب العربي :: مُنتدَى الأدبِ واللغةِ العَربيةِ العَام |
الأربعاء 15 أبريل - 23:09:57 | المشاركة رقم: | |||||||
مشرف
| موضوع: الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) يبدو أن الحديث عن الطبيعة في الشعر العربي أمرٌ واسع ممتد لا حدود له، وكل منطلق من منطلقات الحديث في هذا الموضوع حمّال أوجه وتنفتح منه العديد من الشرفات المطلة على موضوعات ومعانٍ شتى، كلها تجيء في خدمة المعنى المراد، وفي خدمة النص، في نهاية الأمر. وقد انقسمت صور الطبيعة وتوظيفاتها في الشعر العربي، وتعددت مناحيها وصورها وأشكالها، مما جعلنا ننحو منحى تفصيليا في دراسة هذه الكليات، والقيام بتجزيئها تجزيئا يكمل بعضه بعضا، ويصب كله في صميم بعض. من أجل هذا فقد قمنا، تبعا، بدراسة صورة الطبيعة في عدة فروع وسنقوم بدراسة صورة الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرُّمّة وسيقوم على المحاور الآتية: • وصف الحيوانات بشتى أصنافها . • أثر الطبيعة المتحركة في الأثر الشعري في القصيدة . • العلاقات بين الوصف والموصوف في الصورة المتحركة في شعر ذي الرمة. * المحور الأول: وصف الحيوانات بشتى أصنافها: لقد كان الحيوان في الشعر العربي ذا مكانة متميزة جعلته محط اهتمام الشعراء؛ إذ إنه في كثير من الأحايين شاهد على كل رحلاتهم ومواقفهم ومشاهدهم وتصويراتهم، ولهذا فقد استخدمه الشعراء بكثافة، مما أجج القصيدة الساكنة بالحركية المستمرة. فالوجود الحيواني هو، بطبيعة الحال، انعكاس البيئة في الأبجدية، والأبجدية انعكاس رؤيوي لأثر البيئة، ولا بد للشاعر أن يكون ابن بيئته، فلا ينسلخ عنها، ولا ينعزل عنها، بل إنه حري به أن يوظف جميع جزئيات المكان المحيط: حيوان، نبات، جماد حتى يوائم بين الشعر والمحيط، فالشعر وليد المحيط، ولا شعر دون ذلك. وإذا أتينا لتقصي ذلك الوجود الحيواني في شعر ذي الرُمة، لوجدنا أنه شعر يحفل بالكثير من هذه المظاهر، حتى إنه يعَدُّ شاعرا للطبيعة بكل جدارة حتى إن للطبيعة المتحركة أو الحية أثر كبير في شعره ومساحة كبيرة احتلتها في قصائده " فقد وصف الإبل والبقر والحمر الوحشية والذئب والظباء والظليم والبازي والقطا ووصف كذلك الضفادع والحيات، وكان وصفه لها بمثابة لوحاتٍ فنية رائعة قد أبدع في وصفها أيما إبداع، وما زاد من جمال هذه اللوحات أنه كان دائما يبث فيها الحركة والحياة " . ومن هنا فقد اهتم ذو الرمة بالتفاصيل التي تمتاز بها الطبيعة، والتي تختص بالوجود الحيواني، ومن يتأمل في الحيوانات التي وصفها ذو الرمة يجدْ أنها توزعت ما بين حيوانات صحراوية وما بين حيوانات مائية. وهذا يجعلنا نقرر بأن ذا الرمة عاش في أكثر من بيئة وكان شعره موزعا بين أكثر من بيئة. وسنقوم فيما يأتي باستقصاء الأبيات الشعرية التي قام ذو الرمة بتوظيفها في قصائده، والتي قام فيها بتوظيف الحيوانات، محاولين استقصاء ذكر هذه الحيوانات تفصيلا. * الناقة: يبدو أن أكثر الصور التي تحدث فيها الشاعر في الجانب الحيواني، قد كانت في وصف ناقته، إذ اتخذت صورة الناقة المساحة الكبرى من صوره ( الحيوانية )، وقد تعددت أنماط هذه الصورة وكثرت، وتحدث عنها الشاعر في أكثر من طريقة، فوصف الناقة أحيانا وصفا مباشرا، وفي أحايين كثيرة كان وصفه لها مدورا؛ أي أنه يصفها عن طريق إتيانه بصور حيوانية مساندة، كصورة الحمار الوحشي، أو الظباء ، أو الظليم، ... إلخ . وكل هذا لكي يبين مدى المكانة التي كانت الناقة تحتلها في قلب الشاعر وشعره، وسنقوم لاحقا بذكر الأبيات التي قام فيها ذو الرمة بذكر ناقته، استكمالا لتبيان الصورة المتحركة في شعره. يقول ذو الرمة : أخا تنائف أغفى عند ساهمةٍ تشكو الخِشاشَ ومجرى النسعتين كما كأنها جمل وهمٌ وما بقيتْ لا تُشتكى سقطةٌ منها وقد رقصتْ كأن راكبها يهوي بمنخرقٍ تُخدي بمنخرقِ السربالِ منصلتٍ والعيسُ من عاسجٍ أو واسجٍ خَبَبًا تصغي إذا شدّها بالكورِ جانحةً بأخلقِ الدفِّ من تصديرها جُلَبُ أن المريضَ إلى عُوّاده الوَصِبُ إلا النحيزةُ والألواحُ والعَصَبُ بها المفاوزُ حتى ظهرُها حَدِبُ من الجَنوبِ إذا ما ركبُها نَصَبوا مثلِ الحُسامِ إذا أصحابُه شَحبوا يُنحَزنَ من جانبيها وهي تنسلبُ حتى إذا ما استوى في غَرزِها تَثِبُ إن الصورة هنا تنبني على أركان صورية مختزلة من البيئة ذاتها، فتتوارى في أركانها عناصرَ متعددة ومتفاوتة المكانية، فالشاعر يصف ناقته ويسهبُ في وصفها، ولا يتوقف عند ذكرها المجرد، بل يعتمد في تكثيف صورته وتكثيرها على الاستعانة بعناصر طبيعية أخرى، فالبنية الشعرية تقوم على تبيان أن الناقة سريعة وقوية، وهذا حال الشعراء منذ القدم، إذ إنهم يصورون دائما الناقة بصور مؤسطرة، تكون فيها الناقة كاملة في سرعتها وقوتها واكتمالها، وهذا ما يبغيه مسافر الصحراء دائما من ناقته. لقد أولى ذو الرمة الناقة التي تناقلت في شعره عناية خاصة، ووصفها وصفا بارعا حتى إنها لتكاد تكون بمنزلة محبوبته، " فقد ذكر " مي " [ محبوبته ] في نحو من خمس وخمسين قصيدة، على حين ذكر ناقته في نحو واحد وخمسين قصيدة ضمنها معظم أوصاف الناقة الخلقية والخلقية، وحبه الكبير لها وعطفه عليها " . إن الناقة التي يتحدث عنها الشاعر في الأبيات السابقة ناقة تعاني ما يعانيه الشاعر، وتمضي به في نفس ما يمضي هو به، فهي صورة طبق الأصل عما يعانيه الشاعر. فهو يسمها في رحلة كان يمضي بها؛ رحلة طويلة مليئة بالضنك والتعب والوصب ؛ أي الوجع. لمنها رغم كل ذلك تبقى معه صامدة لا تشكو ولا تتذمر مما يمر بها وبراكبها، أي الشاعر، من سوء الحال والطريق. لقد كانت الناقة مرآة يحاول الشاعر من خلالها أن يصف ما يختلج في ذاته من مشاعر، تأمل الأبيات الآتية وما تحمله من دلالات تراود الشاعر ويعكسها على ناقته : لميٍّ ترامت بالحصى فوقَ متنِهِ إذا هيَّجَ الهيفُ الربيعَ تناوحت مراويدُ يستحصدنَ باقيةَ البَقْلِ بها الهُوجُ تَحنانَ المولَّهةِ العُجْلِ إن حنين الشاعر إلى محبوبته صار يراود الشاعرَ كثيرا، فلم يعد قادرًا على أن يستحمله، فيقوم الشاعر حينها بالاستعانة بصورة هي أقرب إلى قلبه وهي صورة الناقة؛ رفيقة الشاعر الدائمة، وهذا يؤكد ما ذكرناه سابقا إلى أن صورة الناقة لتكاد أن توازي صورة محبوبة الشاعر. وهنا تكمن الغرائبية، إن الشاعر يشعر بالحزن الكثيف وهو يستذكر محبوبته مي، فيصور مدى الحنين الذي يكتنف الشاعر بمدى الحنين الذي يصيب الناقة عندما تفقد أبناءها. فهو أشد الحنين وأوجعه وأقواه. إن صورة الناقة أصبحت، بتعبير أكثر تقريرا، انعكاسا لمعظم المشاعر التي تنخلق في ذات الشاعر، وأصبحت تحتل مساحات شاسعة من الحراك الشعري الذي ينتظم الشاعر في مداره. وكلما ازددنا خوضا في شعر ذي الرمة وجدنا أن الشاعر يخوض أكثر في وصفه للناقة، التي أصبحت تتماهى مع الكثير من المصوَّرات الأخرى التي يصورها الشاعر في شعره . ومن ذلك أيضا قولُه في وصف ناقته : وتحتَ قُتودِ المَيسِ حَرْفٌ شِمِلَّةٌ وحتى كَسَت مَثنى الخِشاشِ لُغامَها سريعٌ أمامَ اليَعمَلاتِ نصولُها إلى حيثُ يَثني الخدَّ منها جديلُها إن محاولة منا لكي نسبر أغوار صورة الناقة عند ذي الرمة، جعلنا نتجلى أن الناقة عنده تحتل مكانة تتعمق فيها صورة الوصف وتُختزلُ في الكثير من المعاني والدلالات التي تُخلقُ في شاعرية الشاعر، ويحاول فيها أن يجعل من ناقته شاعرًا آخر أو ذاتا أخرى تتجرد من الشاعر نفسه. الناقة كانت كما يورد الكثير من الباحثين ذات صفات عديدة؛ فـ " من طبع الإبل الاهتداء بالنجم ومعرفة الطرق، والغيرة والصولة والصبر على الحمل الثقيل وعلى العطش، والإبل تميلُ إلى شرب المياه الكدرة الغليظة، وهي من عشاق الشمس، فكانت لذلك أهم وسيلة من وسائل النقل عند العرب بها قطعوا المفاوز الواسعة، والدياميم المخيفة، وعلى ظهورها حملوا متاعهم وماءهم وعتادهم، ومن جلدها ووبرها صنعوا أحذيتهم وأكسيتهم، ومن لبنها اغتذوا، ومن لحمها أكرموا الضيفان، وكانت في أغلب الأحيان رفيقةَ دربهم في السلم والحرب، وفي التجارة والنزهة، فأعزوها وأكرموها " . ومما قاله ذو الرمة في الناقة : أو حُرَّةٌ عَيطَلٌ ثَبجاءُ مُجفِرةٌ لانت عريكتُها من طولِ ما سمعت حنَّت إلى نَعَمِ الدهنا، فقلتُ لها دعائمُ الزَّورِ، نِعْمَتْ زورقُ البلَدِ بين المفاوزِ تنآمُ الصدى الغَرِدِ أُمّي هلالا على التوفيقِ والرَّشَدِ إنها كذلك محاولة من الشاعر إلى التقريب بين لغته والناقة، فهو هنا يصفها بصفات إنسانية صِرفة؛ فهي حرة كريمة وعيطل ؛ أي طويلة العنق، وعظيمة الصدر؛ هذه الناقة التي تتصف بكل هذه الصفات، تتميز أنها كذلك ذات صفة الحنين، وهي كذلك صفة أقرب إلى الإنسانية. إن الشاعر يقارب بينه وبين ناقته فهو يحاورها ويشير إليها بأن تذهب إلى "هلال " وهو ابن أحوز التميمي، الموجود في منطقة الدهناء. إن الشاعر يؤنسن الحيوانات ويجعل منها كائنات تفهمها ويفهمها، وهو يدل على طول ألفة بين الشاعر وناقته. يقول أيضا : قطعتُ إذا هابَ الضغابيسُ مشرفًا على كورِ إحدى المُشرِفاتِ الغوارِبِ وهنا كذلك يصف الشاعر مدى القوة التي تتمتع بها الناقة وتنماز بها بأنها من مشرفات الغوارب، وهي منطقة امتازت بجودة نوقها . لقد قام ذو الرمة في أشعاره برسم لوحات متعددة بارعة الوصف والتفاصيل لتلك الناقة التي يمتلكها، ورسمه للناقة بأسلوبه الشعري الرائق، كان من أروع الشعر في عصره، وأقربه إلى الذائقة العربية، التي تحبذ أن يكون الوصف أقرب إلى الذهن والقلب. لقد كان يتوخى الدقة في رسمه صورة الناقة، ولم يكن ذلك من فراغ، بل لأنه كان يعلم بدقائق الأشياء وتفاصيلها. حتى إن الشاعر يحاول أن يداخل بين صورة الناقة وبين صور حيوانات أخرى فهو يصفها مرة بالثور أو بالحمار الوحشي أو بالنعام، ... إلخ؛ وكل هذه ستتُناول في محاورها، كونها من العناصر الكبرى لصورة الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة. فنحن سنتناول في هذا المحور الصور الشعرية التي تنفرد بها الناقة بذكرها صراحة، دون امتدادها لأي صورة أخرى. يقول ذو الرمة في صورة شعرية ممتدة يصف فيها ناقته : تُهاوي بي الأهوالُ وجناءُ حُرّةٌ نجاةٌ من الشُّدقِ اللواتي يزينها مُراوحةٌ مَلعًا زليجًا وهزةً مَدَدْتُ بأعناقِ المراسيلِ خلفَها كأني إذا انجابت على الركبِ ليلةٌ خِدَبٍّ حنى من ظهره بعد سلوةٍ وأن لم يزل يستسمعُ العامَ حولَه وفي الشول أتباعٌ مقاحيمُ برَّحت يذُبُّ القصايا عن سراةٍ كأنها إذا ما دعاها أوزغت بكراتُها فيلوينَ بالأذنابِ خوفًا وطاعةً إذا استوحشَتْ آذانُها استأنَسَتْ لها فذاكَ الذي شبَّهتُ بالخَرْقِ ناقتي مقابَلَةٌ بين الجِلاسِ الصلاهبِ خشوعُ الأعالي وانضمامُ الحوالبِ نَسيلاً وسيرَ الواسجاتِ النواصبِ إذا السربخُ المَعْقُ ارتمى بالنجائبِ على مُقرَمٍ شاقي السديسينِ ضاربِ على بطنِ منضَمِّ الثميلةِ شازِبِ ندى صوتِ مقروعٍ عن العَذْفِ عاذِبِ به، وامتحانُ المُبرِقاتِ الكواذِبِ جماهيرُ تحتَ المُدجِناتِ الهواضِبِ كإيزاغِ آثارِ المُدى في الترائبِ لأشوسَ نظّارٍ إلى كلِّ راكبِ أناسيُّ مَلحودٌ لها في الحواجِبِ إذا قَلَّصَتْ بين الفلا والمشاربِ إنها قصة شعرية كلما أمعنا فيها وجدناها تجعل من ناقة الشاعر كائنا مميزا وأكثر تفردا وأسطرة. إن هذه القصة الشعرية تمثل ما يُسمّى بالصنعة الفنية، وهي عبارة عن تصوير مشبه ما بصورة تمتد على أكثر من بيت مكونا قصة تمتد أفكارها على أكثر من بيت، لكي تكثف صورة الناقة كما يريدها الشاعر، ولكي يشبعَ ذائقتَه الشعرية. فهذه النوق التي قام بوصفها الشاعر حرةٌ كريمةٌ، وهي كما نلحظُ، صفاتٌ إنسانية أكثرَ منها حيوانية، وهي في اللحظة ذاتها، غليظةٌ شديدة قوية. ومن الصفات التي رصفها الشاعر في وصف النوق التي يسعى الشاعر من خلال هذه الأوصاف أن يبني في ذهن المتلقي صورة نموذجية للنوق التي كان يمتلكها أو يراها. وهي كذلك، كما تصور القصة الشعرية، ضامرة البطن، وهي ليست صفة عيب، بل إنها صفة قوة وإيجابية، إذ ضمور البطن يساعد على أن تكون الناقة سريعة قوية. ولا بد من الاستذكار أن ضمور البطن كان كذلك من الصفات المحبذة للرجال والشعراء عند النساء، إذ كان الكثير من الشعراء يتغنون بضمور بطن المرأة، ويصفونه في العديد من قصائدهم وأشعارهم، مما جعل من هذه الصفة، ثيمة متناقلة بين الشعراء، يستعينون بها لوصف النساء، ويعتبرونها أحد أهم المميزات التي تجعل من المرأة حسناءَ . ومن هنا، فالناقة أضحت متماهيةً في صفاتها مع أنثى الشاعر، وتكاد تتخذ الصفات الإنسانية ذاتها، وهذا من المميزات التي نلحظها بجلاء عند ذي الرُّمة في رسمه لصورة الناقة. ومن الصفات التي أوردها الشاعر والتي تمتاز بها ناقته هي أنها سريعةٌ ( مراوحةٌ مَلْعًا زليجًا وهزة ) أي كأنها، لشدة سرعتها، تتزلج، فلا تحسُّ إلا أنها ذات خفة ملحوظة فوق الأرض. هذه الناقة التي يركبها الشاعر، تملك من القوة ما يملكه الفحل من الإبل القادر على السيطرة على مجموعة من إناث الإبل، وقادر على جمعهنَّ وأن يقومَ بتلقيحهنَّ دون كلال أو تعب، وهذا من صفات القوة، التي تجعل من الفحل قائدًا قادرا على إمساك زمام أمور القطيع، فهو لا يسمح بأن يكون هناك، من أحد إناث الإبل من تملك حملا كاذبا، بل إنه يعاود الكرة عليهن بعد تلقيحهن الأول، ويتأكد ممن لم تنجح فيها عملية التلقيح ( وامتحان المبرقات الكواذب )، فإذا لم ير لقحا ردَّهن وأعاد عليهنَّ الكرة. إن الصفات التي يوردُها الشاعرُ في وصف الناقة والإبل، صفاتٌ لا تصدرُ إلا عن ذي خبرة وتمعن في تفاصيل هذا النوع من الحيوانات، فهو معاينٌ لكل المراحل التي يمرُّ فيها فحل الإبل، وكل المراحل التي تمر بها أنثاه ( الناقة ). وعارفٌ كذلك بالأمور التي يمكن أن تطرأ على هذه الحيوانات، وكيف تتم معالجتها من الفحل نفسه، وكأنه يعيش بين هذه الحيوانات، ويرصد كل التفاصيل المتعلقة بها. إن الشاعر يخلع على ناقته العديد من الصفات التي تُرسم عبر مجموعة متراكمة من الصور الفنية الممتدة، التي تؤطر لصورة كلية تتكاتف من مجموعة من الصور الجزئية، وهي عبارة عن تدرج في رسم الصورة الحيوانية، والطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة. ولم يكن ذلك من الصعوبة بمكان، ذلك أن ذا الرمة ابن الصحراء، وأن الناقة، وهي جزء من الطبيعة الصحراوية، كانت ملازمة له ملازمته ظله، لذلك، كان وصفها من الأمور التي لا تتسم بالتعقيد بالنسبة له. لكن اللغة التي استخدمها أيضا متحها من الطبيعة الصحراوية، فجاءت صعبة شديدة على المتلقي، الذي ألِفَ ولم يألف، في اللحظة ذاتها، هذه اللغة التي انمازت بصعوبتها وتميزها عن باقي ( اللغات ) الشعرية التي توجد في القصيدة العربية. لقد أسهبَ الشاعر بشكل ممتد في رسم صورة للناقة، حتى إننا قد وجدناها بنسبة كبيرة في شعره، بشكل يعز عن الحصر، حيث إن مردَّ ذلك يعود إلى أن الناقة كانت أكثر الحيوانات ملازمة للشاعر، فهي رفيقته في سفره وفي حله وترحاله، هي من تسافر به إلى الوطن، وتنقله إلى ديار الحبيبة، وهي التي يتنقل عليها بين المفاوز والصحاري، هي إن جاز لنا التعبير، ظل الشاعر، وهو الجسد. يقول ذو الرمة : وردتُ بينَ الهِبِّ والهُجودِ وقُلُصٍ مقورَّةِ الجلودِ بأركبٍ مثلِ السُّكارى غيدِ عوجٍ طواها طِيَّةَ البُرودِ هذه القلُص ( النوق ) التي يتحدث عنها الشاعر ضامرةٌ، إنها تسير متمايلة الأعناق من النعاس. إن الغرائبية في صور ذي الرمة الشعرية أنها تنماز بأنها متضادة أي أنها ترسم الصورة والصورة المقابلة. إنه يأتي على الناقة ويصورها من كل زواياها، فكأنه، في لغة العصر، مصور فوتوغرافي، يعاين معظمَ المشاهد التي يمكن أن يكون عليها المُصَوَّرُ. فالناقةُ في هذه الحال ما هي سوى انعكاس نفسي لما يجول في ذات الشاعر، هي، بصورة أخرى، انعكاس حقيقي لأنا الشاعر، وتماهٍ في ارتجال الصورة واختزالها شعرا. يقول أيضًا : فَسيرا فقد طال الوقوفُ وَملَّه قلائصُ أشباهُ الحَنيَّاتِ ضُمَّرُ إنها صفة أخرى يخلعها الشاعر على الناقة، وكأنه يؤنسنها، ويمضي بها لتصل إلى درجة من الكمال الذي يطمح إليه الشاعر في رسمه للصورة الشعرية الخاصة بالناقة. إن الناقة صارت تشعر بما يشعر به راكبُها، وتمضي في شعور يسير به راكبُها، فهي تملُّ مثلما يمل .. وتحن مثلما يحن، وتشعر مثلما يشعرُ ، هي كما قلنا وأكدنا، انعكاسٌ للذات الشاعرة. ويقولُ أيضًا : وحَرفٍ نيافِ السَّمْكِ مُقوَرّةِ القَرا كأنَّ قتودي فوقها عُشُّ طائرٍ أقمتُ بها إدلاجَ شُعثٍ أمَلَّهُم مُغذّينَ يعرورون والليلُ جاثمٌ بنائيةِ الأخفافِ من شَعَفِ الذُّرى إذا غرَّقتْ أرباضُها ثِنيَ بَكرةٍ دواءُ الفيافي: مَلعُها وخبيبُها على لِينةٍ سوقاءُ تهفو جُنوبُها سَقامُ الكرى: توصيمُها ودبيبُها على الأرضِ أفيافًا مَخوفًا رُكوبُها نِبالٍ تواليها رِحابٍ جُيوبُها بتيهاءَ لم تُصبحْ رَؤومًا سَلوبُها ولم يكن ذو الرمة في وصفه للناقة مقتصرا كذلك الأمر على الجانب الإيجابي فقط في البناء الصوري للناقة، بل إنه كان كذلك يرسم الصورة الأخرى السلبية التي تكون فيها الناقة. فهي، كما في الأبيات السابقات، ضامرةٌ، والضمورُ هنا ذو صفة سلبية لا كما كان في أبيات سابقة، حين كان الشاعر يصنع صورة الضمور في شعره على أنها دلالة سرعة. إنها ناقة طويلةٌ بحيثُ إن الفيافي لتكون سقيمةٌ وسير هذه النوق عليها ما هو إلا كالدواء لسقام الصحراء. إنها تسير في الصحراء بتمايل تخبُّ خبًا والخبب السير بسرعة وتمايل. هنا يكمنُ سرُّ الصورة المتحركة في شعر ذي الرمة، إذ إن معظم الصور التي يرسمها للحيوانات لا تتصف بالثبات أو بالسكون، وإنما هي دائما في حركة مستمرة، يظهر ذلك من خلال الألفاظ والمباشرة والصور الدالة، بشكل مباشر وغير مباشر، على هذه الحركية التي يرصدها ويرصفها الشاعر في رسمه للصورة المتحركة لعناصر الطبيعة في شعره. ومن الصور الجميلة التي رسمها الشاعرُ لناقته، هي تلك الصورة التي سترد في الأبيات التي ستأتي لاحقا، والتي استخدمَ فيها الشاعرُ تقنية الأنسنة لناقته وخلع الصفات الإنسانية عليها، وكذلك حوارها، يقول ذو الرمة : أرى ناقتي عند المُحَصَّبِ شاقَها فقلتُ لها: قِرّي فإن رِكابَنا رَواحُ اليَماني والهديلُ المُرَجَّعُ وركبانَها من حيثُ تهوينَ نُزَّعُ إنه في هذين البيتين يجعل من ناقته مخلوقا يشعر ويحس بالحنين، وربما دمج في هاته الصورة أكثر من نموذج طبيعي لرسم صورة شعرية واحدة تتعلق بالناقة؛ فقد ذكر الهديل، وهو صوتُ الحمام، وقد كان اختيارُه لهذا الصوت ذا مناسبة واتساق مع سياق النص؛ فقد كان المشهد حزينا، والهديل صوت بكاء الحمام، إنه يحاورها ويقول بأنها تشعر ما يشعره الشاعرُ ورفقاؤه وأنهم يهوون إلى المكان، كما هي كذلك تهواه. " والواقع أن فكرة الناقة من أكثر الأفكار تنوعًا، فالناقة منبت كل ما أهم وأقلق وأحزن الشاعر، أو هي التي تخلق الأفكار التي ترفعَ الإنسان عن رتبة الحيوان. الأفكار العالية التي لا تتصل بإشباع الحاجات الأولية، الناقة في هذه الحالة ليست وسيلة إلى غاية ، بل هي مجمع كل شعور بالغائية الواضحة والغامضة، الناقة هي خالقة الأساطير التي أخرجت الشعر من الغناء الساذج إلى التصدي المُلِحّ لفكرة المشكلات أو لنقل إن الناقة هي التي نقلت الفكر العربي مما نسميه طبيعة الملاحم إلى طبيعة الدراما والصراع. فالعلاقات الأساسية بين الشاعر والعالم في شكل مزاج من الرفض والقبول تكمن في هذه الناقة " . يقول أيضا : قِفِ العَنْسَ في أطلالِ مَيَّةَ فاسألِ رُمومًا كأخلاقِ الرِّداءِ المُسَلْسَلِ تتجلى في هذا البيت ثيمة العودة إلى التراث والموروث، فمن يقرؤه يظن أنه لشاعر جاهليٍّ، فالإيقاع الجاهلي ذو صوت صارخ فيه، وهو سمةٌ غالبة في شعر ذي الرمة، فشعره يأخذ الطابع القالب الجاهلي وطابعه، ويختلف كل الاختلاف عن شعر شعراء عصره. فهو يطلب من رفقة متخيلة أن تقفَ بالأطلال، والطلل رمزُ موتٍ وفناء؛ فالعنس، النوق، ستقفُ في موضعِ موتٍ، كي يستذكرَ الراكبون مكانًا كان حيًّا وعامرًا، ليس بالناس، بل بمية، ولذلك كانت الإضافة حاصلةً لمية؛ حين قال ( دار مية). فقد تم ربط العنس بالمكان، والمكان هو الموت. فلم تعد الناقة تحمل الصفةَ الإيجابية التي يرددها الشاعرُ في الكثير من شعره الموسوم بصورة الناقة، الدالة على الطبيعة المتحركة، فكانت الناقةُ بذلك أحد قطبين في محور الموت، ويمكن لنا أن نوضحَ ذلك عن طريق الرسم التالي: الناقة الموت ديار مية إن الناقة هنا، وهي من عناصر الطبيعة المتحركة، أحد طرفي صراع مع الثابت أو السكون أو الموت، أو حتى مع الطرف المقابل وهو ذاته الموت لكن بصيغة أخرى؛ إنها ديارُ ميةَ، أو الأطلال. لذا فإننا نستنتج من خلال هذه الجدلية أن الطبيعة المتحركة قد تقع في صراع مع نقيضها، لكنها تنتصرُ من خلال وجودها، وانقضاءِ الطبيعة النقيضة. يقولُ أيضًا : رفعتُ له رحْلي على ظهرِ عِرْمسٍ رُواعِ الفؤادِ حُرّةِ الوجهِ عيطلِ لم يكن هناكَ من ثبات في طبيعة الصورة المتحركة في شعر ذي الرمة، إذ أنه الصورة، كما نلحظ، في توتر ديموميٍّ مستمر، فها هي الآن رمزٌ كذلك على اللاثبات والرحيل والتنقل، ليس ذلك فحسب، بل إن مضمون الصورة أيضا قد تغير عن مضمونها في البيت السابق؛ إذ إنها هنا رمز للحياة والخصب والقوة وهذا ما يتأكد في بيتٍ تالٍ؛ حينَ يقول في القصيدة ذاتها : طَوَتْ لَقْحًا مثلَ السِّرارِ فبشَّرَتْ بأسْحمَ رَيّانِ العَسيبةِ مُسْبِلِ فالناقة في هذه الصورة مفعمةٌ بالخصوبةِ والحياةِ والحركة، فهي تحمل حياةً في ذاتها، وفي قلبها، وهي ذاتُ قوة وخصوبة وحياة. يقول كذلك : وكائنْ تَخَطَّتْ ناقتي من مَفازةٍ ومن نائمٍ عن ليلِها مُتَزَمِّلِ إنه يبين أنها، أي النوق، في حركة مستمرة في عالم ضجَّ فيه السكون، إنها حياة مستيقظةٌ في عالم نائم متزمل بالنوم، فذو الرمة في مثل هذه الصور التي يرسمها للناقة بشتى اختلافاتها وتبايناتها يحاول أن يؤثث جغرافيا القصيدة الني يرصفها بكل عناصر الطبيعة حتى تضج قصيدته بالحركية وعدم الإملال، وحتى تكون الألفاظ في حركية مستمرة، لا أن تكون في ثبات متسَمِّر. * الظبية : كذلك الأمرُ، فإن الظبيةَ غدت من العناصرِ التي تضجُّ بها قصيدة الشاعر ذي الرُّمّة بالحركية والحياة، فنحنُ نلحظُ أن العنصر الحركي في الطبيعة المتحركة يقتصرُ في أغلبه العام على الجانب الحيواني، إذ إن شعر ذي الرمة حافلٌ بذكر الحيوانات التي تبعث في سكون القصيدة ضجيجَ الحركة أو موسيقاها التي تطربُ الآذان، إنه يموسقُ الطبيعة، ويجعل من الحيوانات نوتةً تحرك الإيقاع الداخلي والخارجي للقصيدة. ومما تجدُرُ الإشارةُ إليه إلى أن صورة الظبية في شعر ذي الرُّمة لم تكن صورة امتدادية لصورة الناقة، إذ كانت الظبية وسيلةً إلى الغاية التي يريدها الشاعر، وهي الناقة؛ فالناقة هي المرتكز الأساس التي تقوم عليه الصورة المتحركة في شعر ذي الرمة. ولم تكن صورة الظبية بمدى الشيوع الذي كانت عليه صورة الناقة في شعر شاعرنا، وسنقوم في هذا المحور باستقصاء تجليات صورة الظبية، وبيان أبعادها. يقولُ ذو الرُّمة : برّاقةُ الجيدِ واللَّبّاتِ واضحةٌ بين النهارِ وبين الليلِ من عَقَدٍ كأنها ظبيةٌ أفضى بها لَبَبُ على جوانبه الأسباطُ والهَدَبُ وفي جانب آخر لا بد من الإشارة إليه هو أن الظبية تكتسبُ من الصفات الجمالية ما يجعل الشاعر متحفزًا لكي يصف المرأة ويشبهها بالظباء، ذلك أن المرأة كثيرا من الأحيان ما كانت ظبية شاردة في الصحراء، تتمتع بالكثير من الصفات التي تضيف سحرا على خِلقتِها، فعيونُ الظباءِ واسعةٌ لافتة لأنظار وأشعار الشعراء، وقدُّ الظبيةِ ممتلئٌ مكمورٌ مثيرٌ لفتنة الشعر والشعر والرائي. إنها، أي الظبية، كما يصف في البيتين السابقين، برّاقةُ الجيدِ أي لامعة الجيدِ بيضاء، وهي صفةٌ تغنّى بها الشاعر، وإن دلّت على شيءٍ فإنما تدل على مدى الانفتاح الحضاري الذي قامت عليه الحضارةُ الأموية، من خلال الاختلاط الذي كان آنذاك في المجتمع، فلم تكن بين الرجلِ والمرأة أيةُ حدود أو حواجزَ يمكنُ أن تكون بين المرأة والرجل، مما أفضى إلى أن يصفَ الشاعرُ مفاتنَ المرأة دون وجلٍ من المحيط المجتمعي، فعنقها مشرقٌ أبيضُ كجيد الظباءِ واضح الجمال. وهي ذات قدٍّ ضامرٍ وضمورُهُ صفةُ جماله ورقته، وهي كذلك صفةٌ تغنّى فيه الشعراء وحفلت بها أشعارهم، وكانت الظبية، حينئذ، أقرب الأشياء التي يمكنُ لها أن تكون ذات صفات متوازية أو متطابقة مع جمالية المرأة. فالظبية من أجمل الحيوانات التي هي موجودة في البيئة الصحراوية. فهي، على ذلك، صفة دائرةٌ في الشعرِ، تتحركُ بتحرك المشاعر التي يكنها الشاعر تجاه المرأة. أما الطبيعة الحركية التي تلتصقُ بالظباءِ هي أنها ذات حركة مستمرة، تجعلها محطَّ أنظار الرائي، فهي ذات حركية مفعمة. تحرك سكونَ المكان، وتفعمُ القصيدة بالحركية والحياة، وتضفي الجماليات الخلابة الجذابة على اللغة الشعرية التي يستخدمها الشاعر. الموضوعالأصلي : الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) // المصدر : ممنتديات جواهر ستار التعليمية //الكاتب: مستر
| |||||||
الأربعاء 15 أبريل - 23:10:45 | المشاركة رقم: | |||||||
مشرف
| موضوع: رد: الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) يقول الشاعر : والرئمُ يُعيي والهدوجَ الأربدا مَثنى وآجالاً بها وفُرَّدا إنها محاولةٌ من الشاعر لكي يربطَ المكان بمحتوياته، وهي ذاتُ تواؤم شديد، قادرٌ من خلالها ربط الكائن بالكون، وخلق حركة مدارية بينهما، تجعلُ من قصيدته مكانا رحبًا ضاجًّا بالحركة؛ " ورؤيتنا الترابطَ الذي أحدثه الشاعر بين العناصر، تقودنا إلى حركة عقلية مركزية تمس واقعَ الشاعر، وانعكاسَ الأحداثِ على سلوكه، ...، فانفعاله القوي مدَّ الخيوطَ إلى نهاياتِها حتى غدا يرى أن وجودَه مدفوعٌ بحركة التحول الجديد " . إن هذه الرئمَ التي هي الظباءُ، تملأ المكانَ وتفعمه بالحركة والحياة، فهي موجودة في كافة حالاتها: أنها موجودة بشكل منفرد، أو مثنى ، أو جماعات. وهو أمر يدلُّ على كثرة هذه الظباء، وأن الشاعر يعيش حالة من الفرح، تجعله يكثف الصورة الجمالية المقابلة، فيجعلها كثيرة، انعكاسا لكثرة عناصر الفرح المتكاثرة في هواجسه وذاته. يقول أيضا : فردًا كشاةِ البقَرِ المطرودِ ولاحتِ الجوزاءُ كالعُنقودِ فالناقةُ التي يركبها، وهي المشبه، تكتسبُ من شاةِ البقر، وهي الظبية، المشبه به، جمالياتِها الشكليةَ والمضمونية، فهي سريعة بمقدار السرعة التي تكونها الظبية في البيداء حين تركض، ونحن كما علمنا، في أبياتٍ سابقة في أن الظبية ضامرةُ البطن، تخلقُ حالة جمالية أثناء ركضها، تلفت نظرَ الرائي، وتخلقُ لغة الشاعر، وتنسجُ صورة تتخلل فيها الظبيةُ جميعَ أجزائها وعناصرِها. يقول كذلك : فما أقولُ ارعوى إلا تهيَّضَهُ كأنها أمُّ ساجي الطرفِ أخدَرَها حَظٌّ من خَبالِ الشوقِ مقسومُ مًستَودَعٌ خمرَ الوَعساءِ مرخومُ إنها عودة من الشاعر لكي يصف المرأة محبوبته، مي، بالظبية، من حيثُ العناصر الجمالية التي يخلقها الشاعر، في رسمه لصورة المرأة، لقد أصابت هذه المرأة قلبَه بخبالِ الشوقِ الذي تولد نتيجة الحب الشديد؛ إنها لفرطِ حسنِها وجمالِها، وعلى وجه الخصوص جمال طرفها كأنها " أمُّ ساجي "، وهي كنيةٌ للظبية، فطرفُ الظبية مثلما قلنا وساع، هي ذات عينين نجلاوين واسعتين، كأنهما في صفة مكثفة يختم بها البيت الثاني مستودع خمر، وكأن الشاعر قد تكاثفت به ثمالة الحب حتى غدا يراها كأنها مستودعٌ للخمر. يقول ذو الرمة : أقولُ لنفسي كلما خِفتُ هَفوةً ألا إنما ميٌّ فصبرًا بليَّةٌ تُذَكِّرني ميًّا من الظبيِ عينُهُ وفي المِرطِ من ميٍّ تَوالي صَريمةٍ من القلبِ في آثارِ ميٍّ، فأُكثِرُ وقد يُبتلى المرءُ الكريمُ فيصبرُ مِرارًا، وفاها الأقحوانُ المُنوَّرُ وفي الطوقِ واضحُ الجيدِ أحورُ يبدو الشاعرُ في الأبياتِ التي يرسمُ فيها صورة الظباء أنه متعلق شديدُ التعلق بالمرأة، ومي، محبوبة الشاعرِ، التي تحتلُ هي الأخرى مساحة غير قليلة في شعر الشاعر، كانت أكثر صورها الجمالية متعلقة كذلك بالظبية، فعلاقات التشابه بين المرأة والظبية ترتبطُ مع المرأة من خلال العلاقات التالية، من خلال الرسم التالي: الظبية القَدّ العيون الجيد المرأة هذه العلاقات قام الشاعرُ باستغلالها من أجل تكثيف الصورة الشعرية للمرأة في شعره، ومحاولة ناجحة من الشاعر في ربط البيئة بالوصف للمخلوق، أي، كما قلنا، ربط الكون بالكائن. وتجدرُ الملاحظة إلى بيان السمة الاجتماعية ومدى ارتباط الشاعر بالقيم الاجتماعية السائدة، وهو أمرٌ يجبُ التأكيدُ عليه، ومن ثمَّ فقد كان شعر ذي الرمة انعكاسا واضحا للبيئة الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره آنذاك، وكان الشعر في سائده يصوّر المرأة تصويرا منفتحا غيرَ قائم على قيودٍ أو عقباتٍ يمكن لها أن تحول ما بين الشاعر والمرأة، من خلال القصيدة الشعرية. وهذا الأمرُ يؤكده ألكسندرو روشكا في كتابه حين يقول: " إن الشخصية المبدعة في أي مجال من مجالات النشاط لا توجد خارج الإطار الاجتماعي حيث تعيش وتبدع. لقد كتب بياجيه يقول : " إن المجتمع وحدة عالية، أما الفرد فإنه لا يصلُ إلى ابتكاراته وأعماله العقلية إلا بمقدار ما يختل مكانها في تفاعل الجماعات، وبالتالي في إطار المجتمع ككل " ، ...، إن تصوراتنا المبدعة بكامله ليست نتاجا لدماغ إنسان معزول، بل لدماغ كان مرتبطًا بالتفاعل مع الناس الآخرين وبتاريخِ الحضارةِ بكاملها" . وهنا، يؤكد الكاتب على أن البيئة الاجتماعية هي التي جعلت الصورة الشعرية عند الشاعر أكثر انفتاحا وإشراقًا، ولم تكن الصورة بذلك سوى انعكاس اجتماعي، فصورة المرأة وعلاقتها بصورة الظبية تتجذر وترتبط بعلائقَ متشابكة، ما بين المجتمع والبيئة الاجتماعية، وهذا ما سنوضحه في الرسم التالي: الظبية البيئة المكانية البيئة الاجتماعية المرأة يقولُ ذو الرمة : أحادرةٌ دموعَكَ دارُ ميٍّ نعم طربًا كما نضَحَت فَرِيٌّ بها عُفرُ الظِّباءِ لها نزيبٌ كأن بلادَهُنَّ سماءُ ليلٍ وهائجةٌ صبابتَكَ الرُّسومُ أو الخلقُ المبينُ به الهُزومُ وآجالٌ ملاطِمُهُنَّ شِيمُ تَكَشَّفُ عن كواكبِها الغيومُ إن الشاعر في هذه المقطوعة الشعرية يصف مكانا مفعمًا بالنساء، أي المرأة، تلك الكائن التي تغنى بها الشاعر كثيرا، فقد حاول الشاعر، كذا الأمرُ أن يمزجَ المكان بالكائن ويزاوج بين الطبيعة والمخلوق، الطبيعة في أبيات الشاعر عبارة عن أبجدية يرسمها الشاعر ويخلق بذلك نصا متوائما مع ذوق المتلقي وطبعه، ذوقه في الاختيار اللغوية للشعر، وطبعه، في ميوله للشعر الذي يمتح من البيئة المعيشة أو المحيطة بالشاعر والمتلقي. وهذه النساءُ في هذا المكان بجماليتهنَّ لكالظباءِ شديدات الجمال، ويمضي الشاعر في رسم ورصف صورة هي أشد ما تكون من الجمال حين يقول بأنه هذه الظباء ( النساء ) هي في الليل لكالنجوم المضيئة التي تقشع عتمة الظلام ودلجته، وهي صفة البياض التي تتميز بها الظباء. فالصورة الشعرية في المقطوعة الشعرية الآنفة الذكر تتكاتف وتتكاثفُ لتولِّدَ مشهدا دراميا يمزج بين جمع جزئيات وحيثيات المكان والمكوَّن التي تحيط أو تعيش بالشاعر. يقول ذو الرمة أيضًا : يا حادِيَيْ بنتِ فضّاضٍ أما لَكُما خَوْدٌ كأنَّ اهتزازَ الرُّمحِ مشيتُها كأنها بَكْرَةٌ أدماءُ زيَّنها في رَبرَبٍ مُخْطَفِ الأحشاءِ مُلتَبِسٍ حتى نكلِّمَها هَمٌّ بتعريجِ لفّاءُ ممكورةٌ في غيرِ تهبيجِ عِتْقُ النِّجارِ وعيشٌ غيرُ تَزليجِ منه بنا مَرَضُ الحُورِ المَباهيجِ يمضي الشاعرُ أيضًا في هذه الأبياتِ إلى بيان وتبيان صورة جمالية للمرأة من خلال ربطها بالظبية، فالقَدُّ الذي تتمتع به المرأة، ما يكتنفه من سحر في المظهر والمحتوى هو ذاته الذي تنماز به الظباء، فهي الرمحُ رزينة مصقولةٌ قويةُ القدِّ، لكن هذا لا يمنع أن تكون ممكورة في ربرب، أي أنها ممتلئة الجسم، امتلاءً جماليا يبثُّ الانفعال في هاجس الشاعر وذاته . يقولُ أيضًا : ألمْ تعلمي يا ميُّ أنّا وبينَنا أُطَوِّحُ عيني بالفلاةِ لعلَّني أنينٌ وشكوى بالنهارِ شديدةٌ أرى الحُبَّ بالهجرانِ يُمحى فيُمَّحى ذكرتُكِ أنْ مرَّتْ بنا أمُّ شادنٍ فيافٍ لِطَرْفِ العَينِ فيهنَّ مَطرحُ أراكِ وعيني من هوى الوجدِ تَسفَحُ إليها وما يأتي به الليلُ أبرَحُ وحبُّكَ ميًّا يستجِدُّ ويربحُ أمامَ المطايا تَشْرَئِبُّ وتسنَحُ إنها صورةٌ قد ألِفناها في رسم الشاعر لجماليات المرأة وربطها بالظباء، فقد صارت الظباء ( أم شادن ) وسيلة تذكير للشاعر بمي، محبوبته، هذه الوسيلة لم تكن لتذكره بها لولا أنه كان يرى في الظبية من عناصر الجمال ما يجعلها الوسيلة المثالية والكمالية لاستذكار ميّ، ولما للظبية من قواسم مشتركة وصفات متشابهة ذكرناها فيما سبق من شرح وتفصيل. وفي وصف المكان المفعم بالحركة، والمفعم كذا الأمرُ بالظباء عناصر الجمال يقول ذو الرُّمّة : تَذَكَّرْنَ ماءً عُجْمةُ الرملِ دونَهُ تَصَفَّيْنَ حتى أوجفَ البارِحُ السَّفى يَسُفْنَ الخُزامى بينَ ميثاءَ سَهلَةٍ بها العينُ والآرامُ فوضى كأنها فَهُنَّ إلى نحو الجَنوبِ صواقِعُ ونَشَّتْ جراميزُ اللِّوى والمصانعُ وبينَ براقٍ واجهتْها الأجارِعُ ذُبالٌ تَذَكّى أو نجومٌ طوالعُ فالظباء وكل عناصر الحياة تتكاثر وتتكاثف في هذه الأبيات، لتخلقَ جوًّا من الطبيعة المتحركة التي ترسخُ في ذهنِ المتلقي وتجعل من الكلمات تفاصيلَ لصورةِ الطبيعة المتحركة بشتى حيثياتها. يقول ذو الرُّمة أيضًا : فما ظَبيَةٌ ترعى مساقطَ رملةٍ تِلاعًا هَراقَت عند حوضى وقابلَت رأتْ إنسًا عند الخلاءِ فأقبَلَتْ بأحسنَ من ميٍّ عشيةَ حاولتْ كسا الواكفُ الغادي لها ورقًا نَضرا من الحبلِ ذي الأدعاصِ آملةً عُفرا ولم تُبدِ إلا في تصرُّفِها ذُعرا لتجعلَ صَدْعًا في فؤادِكَ أو وقرا إنه، في هذه الأبيات، يقوم برصدِ صفةٍ جديدة للنساء، وهي صفة التمنع والهروب من الحبيب، وهي صفة دلال لا صفة سلبية منفرة، هذا التمنع كان أقربَ ما يكونُ من الظباء التي تكون في مساقط الرمال، وهي الصحراء، فهي ترى أحدا من بني البشر تسارع بالهروب منه ذعرًا، ويتضمن هذا الهروبُ حركةً مفعمةً في المشهدِ الشعري، تحفز المتلقي لمتابعة الحدث وتبين عناصر الجمال التي تُخلق في الظبية أثناء هروبها. يقول أيضًا : وكلُّ موَشّاةِ القوائمِ نَعجةٌ لها ذَرَعٌ قد أحرَزَته ومطفِلِ فالشاعر في هذا البيت يقوم بوصفٍ جديد لجسد الظبي ومحاولة تحريك الصورة الشعرية وتدويرها لتشمل جميع ما يحيط بالظبية من صفات، فهي حركة الطبيعة الشعرية في داخل الطبيعة الكونية، وإحاطة تدويرية بكل ما تتصف به الظبية، وهذه بالطبع تعد من الطبيعة المتحركة في البنية الشعرية في شعر الشاعر، فهذه الظبية موشّاة القوائم، أي في بياض أقدامها سواد ذو جمال، كذلك فإن هذه الظباءَ رغم جمالها، إلا أنها لا تتسمُ بالضعف أو الليونة، فهي قوية تنجبُ أبناءً لها ذوي قوة مثلها. فالصورة الشعرية هنا تجمع ما بين الشدة والقوة وما بين الجمال؛ فهي بذلك صورة جُمعَ فيها زمام المصوَّرِ من كافةِ نواحيه الشكلية في الحسن والمعنوية من حيث الشجاعة وقوة البأس. ومن هنا، فقد تكررت صورة الظبية بنفس النمطية، ولكن بصور شعرية متوزعة في شعره، في أكثر من موضوع، ولكن معظم صور الظباء التي جاء بها الشاعر ما هي سوى انعكاس للجانب الجمالي الذي كان الشاعر يراه إما بناقته، وإما بالمرأة، التي هي على وجه الخصوص ميّ؛ فهو " يعقدُ مقارنةً بين محبوبته مية المحببة إلى قلبه وبين تلك الظبية التي تشبهها في كل شيء، في بياضها ورشاقتها وخفتها وجيدها وجمالها " . * الظليم: ربما كان الإتيانُ بصورة الظليم، وهو ذكر النعام، في شعر ذي الرمة، لبيان عدة أمور كانت تتمتع بها الطبيعة الصحراوية التي كان يعيش في أكنافها. وأهم هذه الأمور التي كانت المُرام الأساسيَّ للشاعر هي وصف الناقة ومدى سرعتها وجَلَدِها وقدرتها على السير مسافاتٍ طويلةً. وكانت صور الظليم من الصور ذات الامتداد الشعري الطويل في شعر ذي الرمة، فكانت الصورة تمتد على أكثر من بيت، بل إنها تفوق ذلك بكثير، ذلك أنه يصف جميعَ تفاصيلها وجزئياتها، ومن الصور الشعرية الطويلة التي جاءت في وصف الظليم قولُ ذي الرُّمة : أذاكَ أم خاضبٌ بالسيِّ مرتَعُهُ شَخْتُ الجُزارةِ مثلُ البيتِ سائرُهُ كأنَّ رجليه مسماكان من عُشَرٍ ألهاهُ آءٌ وتنوُّمٌ، وعُقبتُهُ يظلُّ مختضعًا يبدو فتنكره كأنه حبشيٌّ يبتغي أثرًا هَجَنَّعٌ راح في سوداءَ مُخمَلَةٍ أو مُقحَمٌ أضعفَ الإبطانَ حادِجُهُ أضَلّهُ راعيًا كلبيةٍ صدَرا فأصبَحَ البَكْرُ فردًا من صواحِبِهِ عليه زادٌ وأهدامٌ وأخفيةٌ كلٌّ من المنظرِ الأعلى له شَبَهٌ حتى إذا الهيقُ أمسى شامَ أفرُخَهُ يَرْقَدُّ في ظِلِّ عَرّاصٍ ويطرُدُهُ تبري له صَعلةٌ خرجاءُ خاضعةٌ كأنها دلوُ بئرٍ جَدَّ ماتِحُها ويلُمُّها رَوْحَةً، والريحُ مُعْصِفَةٌ لا يَذخَرانِ من الإيغالِ باقيةً فكلُّ ما هَبَطا في شأوِ شوطِهما لا يأمنان سباعَ الأرضِ أو بَرَدًا جاءت من البيضِ زُعرًا لا لباسَ لها كأنما فُلِّقَتْ عنها بِبَلقَعَةٍ مما تَقَيَّضَ عن عُوجٍ مُعَطَّفَةٍ أشداقُها كصدوعِ النبع في قُلَلٍ كأن أعناقَها كُرّاثُ سائفةٍ أبو ثلاثينَ أمسى فهو منقلبُ من المُسوحِ خِدَبٌّ شَوقَبٌ خَشِبُ صَقبانِ لم يتَقَشَّرْ عنهما النَّجَبُ من لائحِ المَروِ، والمرعى له عُقَبُ حالاً ، وَيَسْطَعُ أحيانًا فيَنتَسِبُ أو من معاشرَ في آذانها الخُرَبُ من القطائفِ، أعلى ثوبهِ الهَدَبُ بالأمسِ ، فاستأخرَ العِدلانِ والقَتَبُ عن مُطلِبٍ، وطُلى الأعناقِ تضطربُ يرتادُ أحليَةً، أعجازُها شَذَبُ قد كادَ يجترُّها عن ظهرِهِ الحَقَبُ هذا وهذانِ قدُّ الجِسمِ والنُّقَبُ وهُنَّ لا مؤيِسٌ نأيًا ولا كَثَبُ حفيفُ نافِجةٍ، عُثنونُها حَصِبُ فالخَرْقُ دونَ بناتِ البيضِ مُنتَهَبُ حتى إذا ما رآها خانَها الكَرَبُ والغيثُ مُرتَجِزٌ ، والليلُ مقترِبُ حتى تكادَ تفرّى عنهما الأُهُبُ من الأماكنِ مفعولٌ به عَجبُ إن أظلما دونَ أطفالٍ لها لَجَبُ إلا الدهاسُ وأمٌّ بَرَّةٌ وأبُ جماجمٌ يُبّسٌ أو حنظلٌ خَرِبُ كأنها شاملٌ أبشارَها جَرَبُ مثلِ الدحاريجِ لم ينبُتْ بها الزَّغَبُ طارت لفائفُه أو هيثرٌ سُلُبُ من يتأمل هذه الصورة الشعرية المتقنة النظم والوصف والتحقيق الشعري، يجد سردًا تفصيليا للظليمِ في أبياتٍ شعرية عملت على خلقِ صورةٍ متراكمةٍ طوليةٍ؛ فقد عَمِدَ الشاعرُ إلى أن يوازنَ ما بين السرعةِ التي تتمتعُ بها ناقته، التي كثُرَ وصفُها عنده، في أكثر من تقنية، - وازن بينها وبين سرعة الظليم، ثم يمضي بنا في وصفٍ تفصيليٍّ لهذا الظليم الذي يرتع في أرضٍ مستوية مع ثلاثينَ من أبناء جنسه من النعام. ثم يمضي بنا الشاعر في تبيان أوصافه الخَلقية، التي استمَدَّ أجزاءها وتفاصيلَها من البيئة العربية الصحراويةَ؛ فهو رفيع القوائمِ ودقيقُها، وأقربُ ما تُشَبَّهُ به هذه القوائمُ بأنها أعمدةٌ لبيت الشعر الذي عند العربِ، وأما باقي جسمه ما دون القوائمِ فكأنه كالخيمةِ التي ترسخ فوق هذه القوائمِ، التي هي عماد البيت. إنه يسكن في منطقة رعي فيها العديدُ من النباتات الصحراويةِ، وهو غير معروفٍ للإنسيِّ إلا حينما يرفعُ رأسَه؛ فهو ذو عنق طويل؛ ولا يتوقف الشاعر عند هذه الأوصاف الحسية وحسب، بل إنه يُسهِبُ في الوصفِ الحسي لذا الظليم، فهو كأنه في سواده المظلم لكالحبشيِّ، يمتلكُ جناحين كبيرين. إن ناقته مثل هذا الظليم عظيمِ الأوصافِ، إنه لا ينسى في لجة هذا الوصفِ ناقته، فنراه يعودُ ليصفَ ناقته ( الظليمَ ) ببعير عظيمٍ يمتلك قوة كبيرة قد فرَّ عن راعيه. إن هذا الظليمَ الذي فرَّ عن أقرانه الثلاثين فهو شديد السرعة والعدوِ، لكنه كما يظهر من الأبيات يائس من اللاحقِ بها، فيمضي في عدوه بعيدا مسرعًا عن سربه، فيضيع في خضم من تقلب الأجواء والطقس المحيط، فبرودة الجو وسحابٌ كثير كثيفٌ ورعدٌ شديد الصوت وبرق يخطف الأبصار وريحٌ شديدة تحمل في جوفها مطرًا شديدَ الهطل، لكن الظليم ليجري مع هذه الحالة الضوضائية من حالة الطقس شديدَ السرعةِ غيرَ آبهٍ بما يجري حوله. لكن ذا الرمة لا يتوقف عند هذا التشبيه وإنما نراه يشبه سرعةَ هذا الظليم في هذا الخضم بالدلو التي أسرع مخرجها من البئر حتى إذا ما أوشكت على الخروج من البئر انصرمَ الحبلُ فهوت، شديدةَ السرعةِ إلى قاع البئر. وهكذا هي سرعة الظليم الشديدة توازي في قوتها وتهورها بسرعة الدلو الذي انقطع حبله فمضى شديدَ السرعة إلى قاع البئر. ونلحظُ من هذه الأبيات كما ذكرنا آنفًا، أنها مستقاةٌ من الطبيعة البدوية، فكل تفاصيلها موجودة في الصحراء وحسب، كالحبل، والبئر، والظليم والخيمة والأعمدة. إن هذا الظليمَ ليمضي شديدَ السرعة لا يأبه لا بريحٍ ولا بشدة مطر حتى إذا أمسى الليل يزحف على النهار، بدأ الخوفُ يزحفُ إلى قلبِ الظليم على أولاده، فأسرع بكل ما أوتيَ من قوة إلى البحث عن ولديه قبل أن يصيبَهما مكروه أو أي شيء يكدر حياتهما من سباع أو ضباعٍ أو أي حيوانٍ مفترسٍ، فهي، أي هذه النعامات، صغيرة بالقدر الذي لا يسمح لها بأن تدافع عن نفسها فريشُها لم ينبت بعد وأشداقها كصدوع النبع، وأعناقها مثل أعناق الكراث. إن هذه الصورة الحية المفعمة بالحركة الكثيفة، لتبين لنا مدى الإتقان الذي كان يتمتع به ذو الرمة حين حاول أن يمتح من الطبيعة الصحراوية صورة حركية استفاد من جميع تفاصيلها: فالظليمُ، والبعير، والناقة، وأعمدة البيت والخيمة والنعام والبئر والحبل والصحراء كلها عناصر صحراوية حاول الشاعر أن يبعثَ فيها الحركة والحياة. ليس ذلك فحسب بل إنه لم يقتصر على تحريك الطبيعة الأرضية بل إنه حاول أن ينقلَ الحركة إلى السماء، فحاول رسم صورة حركية عنيفة للريح والمطر والبرق والرعد والشتاء. كل هذه جاءت لإشباع النزعة الفنية التي تتصارع في الذات الفنية عند الشاعر. يقولُ أيضًا : زَجولٌ برجليها، نَهوزٌ برأسها من الراجعاتِ الوخدَ رَجعًا كأنه هِبَلٍّ أبي عشرينَ وَفقًا يشلُّهُ إذا زفَّ جنحَ الليلِ زفَّتْ عِراضَهُ ذُنابى الشَّفى أو قَسمةَ الشمسِ أزمَعا تُعاليهِ في الأُدحيِّ بَيْضًا بِقَفرةٍ إذا أفسدَ الإدلاجُ لوْثَ العصائبِ مِرارًا تَرامي صُنتُعِ الرأسِ خاضِبِ إليهنَّ هَيْجٌ من رَذاذٍ وحاصِبِ إلى البَيْضِ إحدى المُخمَلاتِ الذَّعالِبِ رَواحًا، فمَدًّا من نجاءٍ مُناهبِ كنجمِ الثريا لاحَ بين السحائبِ فالشاعرُ في هذه الأبياتِ يرسمُ صورةً تشبيهية لناقته، وهي صورةٌ امتدادية، يحاول من خلالها الانتقال من صورة على صورة عبر طريقة لا يقع فيها المتلقي بالإملال، وإنما ينسابُ بين هذه الصور دون أن يشعر بالانتقال، بل إنه يمضي في صورة الناقة حين تنتقل إلى صورة الظليم. إنه ظليمٌ ضخمُ الجسمِ عظيمُ الريش يرعى بيضه في سواد الليل هو وأنثاه النعامة خوفًا من ملاقاة عدو يفتكُ بالنعام والأبناء في البيض، فلا يستطيعُ أي شيءٍ أن يقتربَ من هذا البيضِ الذي هو أيضًا كنجمِ الثريا الذي يلوح ما بين السُّحُب . ثم يعودُ الشاعرُ ليصفَ ما يتعلقُ بالنعامِ كالبيضِ مثلا إذ نراه يقول في قصيدة قافيّةٍ له : الموضوعالأصلي : الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) // المصدر : ممنتديات جواهر ستار التعليمية //الكاتب: مستر
| |||||||
الأربعاء 15 أبريل - 23:11:17 | المشاركة رقم: | |||||||
مشرف
| موضوع: رد: الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) لبسنا لها سَرْدًا كأنَّ متونَها سرابيلَ في الأبدانِ فيهنَّ صُدْأةٌ على القومِ في الهيجا متونُ الخَرانِقِ وبيضًا كبيضِ المُقفِراتِ النَّقانقِ إن الشاعر في هذين البيتين يصفُ معركةً، ويقوم بوصف الأسلحة المستخدمة كالسرد والسرابيل والبيض التي هي الدروع، فهي صلبة قوية كأنه بيضُ نعام الموجودة في الأمكنة المقفرة، فهي شديدة الصلابة لا تُكسَرُ بسرعة وسهولة. يقولُ ذو الرمة : ومُشتَبِهِ الأرباءِ يرمي بركبه إذا هَبَّت الريحُ الصَّبا دَرَجَتْ به يُخَيَّلُ في المَرعى لهُنَّ بنفسِهِ يَبيسُ الثَّرى نائي المناهلِ أخوَقُ غرابيبُ من بَيْضٍ هجائنَ دَرْدَقُ مُصَعلَكُ أعلى قُلَّةِ الرأسِ نِقنِقُ فذو الرمة في هذه الأبيات يسعى سعيا حثيثًا لكي يصفَ المكانَ بكلِّ ما يحتويه المكانُ من تفاصيلَ تبعثُ على الحركة في أركان المكان، وإنما اختارَ الزمنَ الشتائي الذي تعصفُ فيه الريحُ الشديدةُ ذلك أن النعامَ لا يبيضُ سوى في الشتاءِ، وإنما شبّه هذه النعامَ بالغرابيبِ وذلك لشدة سوادها. هذه النعام تقوم برعاية بيضها حتى تفقس هذه البيض عن أبنائها. إنه وصفٌ مفعَمٌ بحركة دورية لا تنتهي ولا تتوقف عن حد أو مدى معين، بل إن الشاعر يمضي ويسردُ صورة الصحراء بكل ما تحتويه بأسلوب سردي قصصي أو هو أقربُ إلى الدرامية، حتى يبينَ إلى المتلقي الذي يمضي ويسافر معه في مثل هذه الصور الشعرية التي ترسم الطبيعة المتحركة في بيئة ذي الرمة. يقول أيضًا : وكائنْ قد قطعتُ إليكِ خَرْقًا وكم نفرتُ دونَكِ من صَوارٍ تقاصَرَ مرَّةً وتطولُ أخرى وإن نظَرَتْ إلى شبَحٍ أمَجَّتْ يَشُلُّ نَجاؤها وتَبوعُ بوعًا بأصفرَ كالسِّطاعِ إذا اصمَعَدَّتْ كأن عليهما قِطعاتِ بيتٍ تطيرُ عِفاءَةً غَبَرَتْ عليها يُمَيِّثُ مُنَّةَ الرجلِ الجليدِ ومن خرجاءَ مُرئلةٍ وخودِ تَسَفُّ المَروَ أو قِطعِ الهَبيدِ كإمجاجِ المُعَبَّدةِ الشَّرودِ ظهورَ أماعزٍ وبطونَ بيدِ على وهَلٍ وأعصلَ كالعمودِ نحيتِ الرَّقِّ من كَرِشِ الجُلودِ كَجُلِّ الرَّهبِ من خَلَقِ اللُبودِ فالشاعرُ هنا يحاول ناجحا أن يصف طريق رحلته إلى ممدوحه، فيقول كم أُفزعَ من البقر والنعام الموجودة بكثرة في الصحراء، ثم يُسهبُ في وصفِ النعام، فيصفها بأنها تلك النعامة التي ترفعُ رأسها لتأكلَ من الشجرِ العالي، أو تخفضُ رأسها لتلتقطَ الحصى، فكأن عنقَها يطولُ ويقصُرُ. هذه النعامة التي يصفها الشاعرُ يصفها وصفًا ثانيا بأنها شديدةُ الذعرِ من بني البشر، فتجري هاربةً منه أشدَّ الجري حتى إن قوائمها الصفراءَ التي تخضبت بالصفرة جراء ركضها بين النباتات، وإن جناحَها ليطيرُ عنها من شدة عدوها. وهي على ذلك صورةٌ مفعمة بالحركة، ذات صلة شديدة ووثيقة بالبيئة التي يعيشُ فيها الشاعر، وهو في رسمه لصورة الظليم يعطينا وصفا صداقا لصفاته الشكلية والمضمونية. فقد أبدع ذو الرمة وأجاد في وصف ورسم كل ذلك بالكلمات، دون أي شيةٍ يمكن لها أن تتخلل صوره الشعرية في هذا السياق. * الحمار الوحشي : وفي هذا المحور المتفرع من الباب الذي يتحدث عن الطبيعة المتحركة وسماتها في شعر ذي الرمة، سنتحدث عن حيوان قد شاع، ولكن بشكل غير كبير، في شعر الشاعر، وإنما جاء كذلك بصورة الحمار الوحشيِّ لكي يبنَ القوة والشدة والسرعة التي كانت عليها ناقتُه. يقولُ ذو الرمة : والعيسُ من عاسِجٍ أو واسِجٍ خَبَبًا تُصغي إذا شَدَّها بالكورِ جانحةً وثبَ المُسَحَّجِ من عاناتِ مَعْقُلَةٍ يَحدو نحائصَ أشباها مُحَمْلَجةً له عليهنَّ بالخَلصاءِ مَرتَعَهُ حتى إذا مَعْمَعانُ الصيفِ هَبَّ لهُ وضوَّحَ البقلَ نآّجٌ تجيءُ بهِ وأدركَ المُتَبقّى من ثميلَتِهِ تنَصَّبَتْ حولَهُ يومًا تراقبُهُ حتى إذا اصفرَّ قَرنُ الشمسِ أو كرَبَتْ فراحَ مُنصَلِتًا يحدو حلائلَهُ يعلو الحَزونَ بها طورًا ليُتعِبَها كأنّه مُعوِلٌ يشكو بلابلَهُ كأنه كلَّما ارفضَّتْ حزيقتُها يُنْحَزْنَ من جانبيها وهي تنسلبُ حتى إذا ما استوى في غَرزِها تَثِبُ كأنه مُستَبانُ الشَّكِّ أو جَنِبُ وُرْقَ السَّرابيلِ في ألوانِها خَطَبُ فالفَوْدَجاتِ فَجَنبَيْ واحِفٍ صَخَبُ بأجَّةٍ نَشَّ عنها الماءُ والرُّطُبُ هَيفٌ يمانيةٌ في مَرِّها نَكَبُ ومن ثمائلِها، واستنشئَ الغَرَبُ صُحْرٌ سَماحيجُ في أحشائِها قَبَبُ أمسى وقد جَدَّ في حوبائِهِ القَرَبُ أدنى تَقاذُفِهِ التقريبُ والخَبَبُ شبهَ الضِّرارِ فما يُزري بها التعبُ إذا تنَكَّبَ من أجوازِها نَكِبُ بالصُّلْبِ من نهشِهِ أكفالَها كَلِبُ إن الشاعر يقوم في هذه الأبيات برسم صورة شمولية مكملة لجميع تفاصيل الحمار الوحشي، ويصف في قصة امتدادية مغامرة لهذا الجنس من الحيوانات في محاولة لتبيان جميع مواطن القوة التي يتمتع بها الحمار الوحشي، ليبين بطريقة غير مباشرة أن ناقته هي الأخرى بذات القوة التي للحمار الوحشي. فهو يشبه ناقته بالحمار الوحشي ذي القوة العظيمة الذي يقود ( نحائص ) وهي الأُتُن التي تتبعه وتخضع له، هذه الأتن قد قام الشاعر كذلك بوصفٍ تفصيلي للهيئة الشكلية للأتن اللواتي هن تابعات للحمار الوحشي، من باب تبين الخبرة المعرفية للشاعر بالتفاصيل للحيوانات الصحراوية. وما أشعاره سوى معجم ثقافي يجمع فيه الشاعر جميع المعلومات التي تهم الباحث والعربي في معرفة أصناف الحيوانات وأشكالها وأنواعها. هذه الأتن ذات شعر ضاربٍ للسواد، يقوم الحمار الوحشي بالنهيق عليهن والصياح عليهنَّ كيما يجعهنَّ في سرب واحد في مرتعه؛ ثم يقوم الشاعر بوصف البيئة المكانية التي تحيط بالحمر الوحشية والأتن، فهي بيئة صحراوية شديدة الحرارة؛ حتى الريح التي تأتي في هذا المكان هي ريحٌ شديدة الحرارة ( الهيف )، والمنطقة هذه هي منطقة ذات ريح مستمرة شديدة الحرارة. إنه يحاول، أي الحمار الوحشي، أن يستفزَّ الأتن على الذهاب إلى نبع الماء كي يشربوا الماء فالعلف الذي كان في جوفها قد نفدَ، والعطشُ قد زاد. هذه الأتُنُ قد تجمَّعَت حول الحمار الوحشيّ ( وتنصَّبَت ) حوله كي يوردها إلى نبع الماء، حين ( يصفرَّ قرنُ الشمس )، وهي تفصيل للوقت الذي تَرِدُ فيه الحمر والأتن شربَ الماء ذلك أن الليل هو الملاذَ الآمن لها خوفا من الصيادين والرماة. إن هذا الحمار الوحشي الذي يمتلك قدرة كبيرة على السيطرة على قطيع الأتن وهو يسير أمامها ما بين ( التقريب والخبب ) كي يلحق بأجمعها، إن هذا الحمار الوحشي يتعامل مع الأتن اللواتي يسرن خلفه مثل السائس الماهر الذي يحرك يديه يمنة ويُسرةً كي يجمع فتق المتناثرات من هذه الأتن في بوتقة واحدة، فيصعد إلى الأماكن المرتفعة كي يشرف ويطل على أتنه ويصيحُ عليها وكأنه رجل صاحب قطيع يجمع قطيعه. إذن فهي على ذلك صورة مفعمة بحركة كبيرة تجعل من الطبيعة عاملَ حياة وديمومية في تفاصيل الحركية. وهذا بالطبع ما يصب في صميم الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة؛ مدار دراستنا. يقول كذلك : كانت إذا وَدَقَتْ أمثالُهُنَّ له حتى إذا الوحشُ في أهضامِ مورِدِها فَعَرَّضَتْ طَلَقًا أعناقَها فَرَقًا فأقبلَ الحُقبُ والأكبادُ ناشزةٌ حتى إذا زَلَجَتْ عن كلِّ حُنجرةٍ رمى فأخطأ، والأقدارُ غالبةٌ يَقَعنَ بالسفْحِ مما قد رأينَ بهِ كأنهنَّ خوافي أجدلٍ قَرِمٍ فبَعضُهُنَّ عن الأُلاّفِ مُشتَعَبُ تَغَيَّبَتْ رابَها من خيفةٍ رِيَبُ ثمَّ اطَّباها خريرُ الماءِ ينسكِبُ فوقَ الشَّراسِفِ من أحشائِها تَجِبُ إلى الغليلِ، ولم يَقصَعْنَهُ، نُغَبُ فانصعنَ ، والويل هِجِّيراهُ والحَرَبُ وَقعًا يكادُ حصى المَعزاءِ يلتهبُ ولّى ليسبقَهُ بالأمعزِ الخَرَبُ فالشاعرُ في هذه الأبيات يحاول أن يرسم لنا صورة عبارة عن حركة غرائبية ومغامرة شعرية يتصارع في حلبتها الحمر الوحشية والصياد الذي يعد من المحفزات التي تُرسم في الطبيعة الحركية في شعر ذي الرمة. إن الشاعر في رصده لجميع تفاصيل المكان والشخصيات التي أقام عليها سردية النص والقص يجعلُ من المقطوعة الشعرية، مثلما ذكرنا ونذكر دائما معجما تأريخيًا لغويا جغرافيا اجتماعيا، إن الشعر ذو طبيعة موسوعية يمتح من الطبيعة ومن كل مكونات المحيط مادته ولغته وصوره،ويحاول أن يرصفها في مساحة محدودة ليعبرَ عن مساحة لا محدودة. إنه اختصار المسافات وإيجاز لإطناب المحيط. يقول كذلك : على عانةٍ حُقْبٍ سماحيجَ عارضَتْ مراويدُ تَستَقري النِّثاعَ وينتحي خميصُ الحشا مُخلَوْلِقُ الظهرِ أجْمَعَتْ ترى كلَّ ملساءِ السَّراةِ كأنما تلَوَّحْنَ واستطلَقْنَ بالأمسِ، والهوى وظلَّتْ بمَلقى واحِفٍ جَرَعَ المِعى بيومٍ كأيامٍ كأن عيونَها فما زالَ فوقَ الأكْوَمِ الفردِ رابئا فراحت لإدلاجٍ عليها ملاءةٌ فما أفجرَتْ حتى أهَبَّ بسُحرَةٍ رياح الصَّبا حتى طوتها حَرورُها بها حيثُ يَهوي وهو لا يستشيرُها له لقَحًا مِرباعُها ونَورُها كساها قميصًا من هراةَ طُرورُها إلى الماءِ لو تُلقى إليها أمورُها قياما تَفالى، مَطلَخِمًّا أميرُها إلى شمسِهِ خُوصُ الأناسيِّ عورُها يراقبُ حتى فارقَ الأرضَ نورُها صُهابيَّةٌ من كلِّ نَقعٍ تُثيرُها علاجيمَ عينِ ابنَيْ صُباحٍ نَثيرُها على عادة ذي الرُّمة، فإنه يلجأ في الكثير من أبياته التي يوظِّف فيها الجانبَ الحيوانيَّ الذي يمثل من ورائه الطبيعةَ المتحركةَ في شعره، فإنه يلجأ في الغالبِ إلى القصِّ السردي الذي يُنشئُ من خلاله قصة يرصدُ فيها كل التفاصيلِ التي يبتغي إيرادَها من أجل إشباع الوصف المرتجى في هاجسه الشعري. ونلحظُ في هذه المقطوعة الشعرية أن اللغة طغت عليها الصبغة الجاهليةُ التي أضفت نوعا من الصعوبة في التلقي، كون الألفاظ تحتاج إلى معجم لُغوي يرتقُ البون الذي يُخلق بين القارئ والمقروء. وهي سمة لحظناها بشكل كبير في غالب شعر ذي الرمة ذي الصبغة الجاهلية على عمومه وكليته. إن الشاعرَ يصور هذه الحمرَ الوحشيةَ ( مراويدُ ) تريدُ أن تردَ الماءَ لكي تشربَ، يقودُها الحمار الوحشي ذو القيادة والسيطرة، إنه " يهوي وهو لا يستشيرُها " وكأن الأمرَ موكلٌ إليه والقرار بيديه، فلا قرار لسواه. إنه، وهو أمر ملحوظ في أكثر أشعاره في الوصف الحيواني، فإنه يقدم فيه الصورةَ الجسدية للحمار الوحشي، في كافة تفاصيله، فهو " خميص الحشا " أي ضامر البطن وهي صفة قوة ؛ " مخلولق الظهر " أملسُ وهذا يساعده في الركض ويدل الوصف هذا على شدة سرعته. إن الصورةَ تدبُّ في أوصاله الحركة في كافة مقاييسها، تصفُ كيف تردُ هذه الأتُن والحمار الوحشيُ الماء، وما يعانينه من مخاطرَ وصعوبات كي ترتوي من عطشها، وتصف كذلك حكمة الحمارِ، إن جاز لنا التعبير حين ينتظر الشمس حين "فارق الأرض نورُها " حتى يَرِدَ الماء بعيدا عن أعين الصيادين وسهامهم. يقول كذلك في وصف مناظر لما قام به مسبقا في الأبيات التي أوردناها لكن بإسهاب أكبر، إذ إننا سنقوم بإيرادها من باب التأكيد على أن الشاعر يوردُ ذاتَ الصورة لذات المُصَوّر من باب التأكيد على ما يبتغيه الشاعر من هذا التكرار الذي يفضي إلى تثبيت وترسيخ الصورة المتكونة للحمار الوحشي، وتحريك الثوابت المتعلقة بسكون الصورة عند وصف معين، إذ إن الشاعر يحرك ألفاظه وملَكتَه الشعرية في أكثر من قصيدة كي يجعل من الطبيعة طبيعةً وصورة متحركة محورها النص الشعري الذي يتولد من ذات الشاعر. يقول : أو مُخْطَفُ البَطنِ لاحتْهُ نحائصُهُ حادي مُخطَّطَةٍ قُمرٍ يُسَيِّرُها جاد الربيع له روضَ القِذافِ إلى حتى كسا كلَّ مُرتادٍ له خَضِلٌ وَحفٌ كأن الندى والشمسُ ماتعةٌ ما آنَسَت عينُهُ عينا يُفَزِّعُهُ حتى انجلى البردُ عنه وهو محتقرٌ ترميه بالمورِ مهيافٌ يمانيَةٌ ما ظلَّ مُذ أوجَفَتْ في كلِّ ظاهرةٍ لما تعالت من البُهمى ذوائبُها حتى إذا لم يُجِدْ وعلاً ونجنجها ظلت تفالى وظلَّ الجأبُ مكتئبا حتى إذا حانَ من خُضرٍ قوادمُهُ خلّى لها سربَ أولاها وهيَّجها راحت يَشُجُّ بها الآكامُ منصَلِتًا فما انجلى الليلُ حتى بيَّتت غللاً وقد تهيَّأ رامٍ عن شمائلها كأنه حين يدنو وِردَها طمعًا إذا توجَّسَ قَرْعًا من سنابكِها حتى إذا اختلطت بالماء أكرعها وفي الشمال من الشريان مُطعَمَةٌ يؤود من متنها متنٌ ويجذبُهُ فبَوَّأ الرميَ في نزْعٍ فَحُمَّ لها فانصاعتِ الحُقْبُ لم تقصَعْ صرائرَها وباتَ يَلهَفُ مما قد أُصيبَ به بالقُنَّتينِ كلا ليتيه مَكدومُ بالصيفِ من ذِروةِ الصَّمّانِ خيشومُ قوَّينَ وانعدَلَتْ عنه الأصاريمُ مُستحلِسٌ مثلُ عُرضِ الليلِ يَحمومُ إذا توقَّدَ في أفنانِهِ التّومُ مُذْ جادَهُ المُكفَهِرّاتُ اللهاميمُ عَرْضَ اللِّوى زَلِقُ المَتنينِ مَدمومُ هوجاءُ فيها لباقي الرُّطبِ تجريمُ بالأشعثِ الوَردِ إلا وهو مهمومُ بالصيفِ والنضَرَجَتْ عنه الأكاميمُ مخافةَ الرميِ حتى كلُّها هِيمُ كأنه عن سِرارِ الأرضِ محجومُ ذي جُدَّتينِ يَكُفُّ الطَّرْفَ تغييمُ من خلفِها لاحقُ الصُّقلينِ هِمهيمُ فالصُمُّ تُجرَحُ والكَذّانُ محطومُ بين الأشاءِ تغشّاهُ العلاجيمُ مُجَرَّبٌ من بني جِلانَ معلومُ بالصيدِ من خشيةِ الإخطاءِ محممُ أو كان صاحبَ أرضٍ أو به المُومُ أهوى لها طامعٌ بالصيدِ محرومُ كبداءُ، في عودها عطفٌ وتقويمُ كأنه في نياطِ القوسِ حلقومُ من ناشباتِ بني جلاّنَ تسليمُ وقد نَشَحْنَ فلا رِيٌّ ولا هيمُ والحُقبُ ترفضُّ منهنَّ الأضاميمُ إنها قصة محورية تدور حول الصراع بين الصائدِ والحمر الوحشية التي تهرب منه لكي تنجو بحياتها، وهي صورة مفعمة بحركة دائبة ومستمرة استطاع الشاعر بجدارة أن يجعلها هكذا من خلال استخدامه للعديد من التقنيات الشكلية والمضمونية، فهو يكرر الفعل المضارع في هذه المقطوعة كثيرا، مما يومئ إلى أن الشاعر يبتغي إلى أن يظل الفعل مستمرا وحاصلا وغيرَ دائرٍ في بوتقة الماضي والانتهاء. وهو كذلك يحاول أن يجعل الحركة القائمة في قلب الحدث هي أقرب ما تكون إلى التصوير الدرامي الذي يصور المكان من جميع التفاصيل ويصور الشعور المتولد عن طرفي الصراع اللذين يتمثلان بالحمر الوحشية والصياد. وكأن الشاعر في هذه القصة الشعرية يحاول أن يرصدَ لنا جاهدا الصراع الدائرَ بين الموت والحياة، وأن الموت يلحق بالحياة أينما ولت. رغم أن الحمرَ الوحشية قد هربت من قبضة الموت المتمثلة بالصياد إلا أن الشاعر أبقى النهاية مفتوحة ولم ينهها عند حد معين . فالصياد يضرب ويخطئ صيده، وهذا مما يهبُ الحمر فرصةً أخرى للنجاة والظفر بالحياة. وهذه الحياة هي التي تجسد في القصيدة وفي صورة الطبيعة تلك الحركية الدؤوبة والمستمرة في شعر ذي الرمة. إن الشاعر قد كرر معظمَ صور الحمار الوحشي وقدرته على إيراد أتنه الماء في الظلام، وكذلك صورة الصراع بينها وبين الصياد في معظم قصائده، وقد اقتصرنا على ما أوردناه من أمثلة كونها تمثل القدور لباقي المقاطع التي وردت في الموضوع ذاته. وينبغي التأكيدُ هنا على أن الصورَ التي وردت في الحمر الوحشية هي ذاتها لتي كان بعضُ الدارسين يوردونها منفصلة واضعينها تحت ما يسمى بالثور الوحشي. إذ الحمار الوحشي في قصائد ذي الرمة هو ذاته الثور الوحشي، ولم يكن بينهما فرق في الصورة والتصوير، ولم تأتِ صورتهما منفصلة عن الأخرى فهما شخصية طبيعية واحدة لا شخصيتان في شعر الشاعر. * بعض الحيوانات المتفرقة التي جاء ذكرها عَرَضًا في صورة الطبيعة المتحركة: في سياق الطبيعة المتحركة التي جاء بها الشاعر في شعره، نجد أنه قام بذكر بعض الحيوانات في المشهد الطبيعي من أجل أن يدخلَ في الصورة الشعرية كل عناصر الطبيعة ومكوناتها، فلم يهمل أي عنصر، لكن اهتمامه بهذه العناصر. فقد اهتمَّ كما لحظنا بالناقة ورسم لها كل الصور التي جاءت تبعا، فحفلت ناقة الشاعر بكل عنايته واهتمامه، جاء تبعا لذلك اهتمامه بصورة الظبية فالظليم فالحمار الوحشي تباعا. لذلك فإن هناك بعضَ الحيوانات التي جاءت في ثنايا تلك الصور الشعرية الكبيرة. وستكون هذه الحيوانات في الذكر الشعري حسب الأكثرية في زخمها بين قصائد ذي الرمة، وستكون على النحو الآتي: • الحرباء • الذئب • الكلب • القطا * الحرباء: يقول ذو الرمة : إذا جعلَ الحرباءَ يبيضُّ لونه ويَشبَحُ بالكفينِ شبْحًا كأنه ويَخْضَرُّ من لفحِ الهجيرِ غَباغبه أخو فَجرَةٍ عالى به الجِذعَ صالبُه يظهر من هذين البيتين أن الشاعر على معرفة شاملة لتصرفات الحيوانات الصحراوية كيفية عيشها، فها هو يرسم لنا صورة تلون جلد الحرباء وكيف تتغير ويصبح لونها متغيرا ما بين الأبيض والأخضر، حتى الحركات التي يفعمها بالنص ليخلق لنا صورة الطبيعة المتحركة مكتملة النصاب، يضمنها الأفعال المضارعة حتى تبقى الحركة دائبة ومستمرة. يقول أيضًا : بعدَ الضحى وأظهر المظهّرُ كأنه ذو صَيَدٍ أو أعوَرُ في الآلِ يخفى مرةً ويظهَرُ وآضَ حرباء الفلاةِ الأصغرُ من الحَرورِ واحزَألَّ الحزْوَرُ ............................................. إن الشاعرَ في هذه الأبيات، يحاول أن يقدم للمتلقي وصفًا آخرَ من أوصاف الحرباء، وهي الحركة التي تقوم بها بعينيها، إذ إنها تحركها في جميع الاتجاهات؛ ثم هي تظهر للعيان مرة، ثم تتخفى في الرمال خشية من الرمال الحارقة. إنه وصفٌ دقيق يشي بأن الشاعرَ يقدم صورته بعد أن اكتسبَ خلفية معرفية عن الموصوف، فهو مراقب حصيف لكل تحركات الحيوانات المحيطة به ويقدمها بوصف شعري دقيق، وبلغة شعرية تمتح من نفس البيئة الصحراوية قسوتَها وجلادتها. يقول أيضًا : يَظَلُّ بها الحِرباءُ للشمسِ ماثلاً إذا حوَّلَ الظِلَّ العَشيَّ رأيتَهُ غدا أكهبَ الأعلى وراحَ كأنه على الجِذْلِ إلا أنه لا يُكَبِّرُ حنيفًا وفي قَرنِ الضحى يتَنَصَّرُ من الضِّحِّ واستقبالِهِ الشمسَ أخضرُ إنها لصورة غاية في الروعة والجمال التوصيفي الشعري، فهو يصور هذه الحرباء وتحركاتها على الشجرة وكيف أنها تستقبل الشمس في الصباح وتدور معها في حتى المساء، فكأنها نصرانيٌّ اتجه للشرق من أجل صلاته، أو كالمسلمِ الذي اتجه إلى القِبلة تجاه الكعبة وقتَ الصلاة، فهو هنا في هذه الأبيات يشير إلى الكثير من الإشارات التي يومئ بها دون مباشرة، وعن التوزع الديني في منطقته وبيئته. إنه كذلك يصف تلونها والاختلاف في اللون في الاختلاف بالزمن. يقول ذو الرمة في صورة قريبة الوصف من الصورة السابقة : كأنَّ حرباءَها في كلِّ هاجرةٍ ذو شيبةٍ من رجال الهندِ مصلوبُ هي صورة كذلك تمتحُ من البيئة الدينية التي كانت في عصر الشاعر آنذاك، فكأن منظر هذه الحرباء وهي في شدة حرها كأنها رجل نصراني مصلوب على شجرة. ليس ذلك فحسب، بل إنه في صورة مقابلة يعادل الصورة الأولى بصورة من الجانب المقابل للنصرانية وهو الحس الإسلامي، فنراه يقول : كأنَّ يديْ حِربائها متشمِّسًا يدا مجرمٍ يستغفرُ الله تائبِ دقةٌ في الوصف والتعبير، وكأن الشاعر في مثل هذه الصور قريبٌ شديد القرب من الحيوانات، وكأن بين الشاعر وبينها علاقة تآلف وعدم نفور، حتى يصورها في مثل هذه الأوصاف، فكأنها حين تتجه إلى مكان تجلي الشمس وظهورها، كأنها بذلك رجل مذنب رفع يديه يريد أن يستغفر الله، وليست هذه الصورة من فراغ، إذ إن الحرباء هي الأخرى حين تراقب الشمس ترفع يديها، فهي صورة موازية في المنظر والتشبيه. يقول أيضا : فلمّا تَقَضَّتْ حاجةٌ من تَحَمُّلٍ وأظهَرْنَ واقلولى على عوده الجَحْلُ فالجحلُ في هذا البيت يقصد الشاعر به هنا الحرباء العظيمة الحجم، فقد كان يطلق عليها العديد من الصفات والألفاظ التي تمتح من البيئة الصحراوية معجمَها. * الذئب: لم يكن الذئب بمعزلٍ عن الوصف الشعري للطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة؛ إذ إنه رفيق الصحراء، ورفيق الليل، ورفيق وصف الجوع والقوة ورباطة الجأش، يقول : وَرَدْتُهُ قبلَ القَطا الأرسالُ وقبلَ وِردِ الأطلسِ العَسّالِ فالأطلسُ الذي يذكره الشاعرُ في هذا البيتِ هو الذئب، فهو يصف مشهدا يريد أن يصفَ فيه سرعتَه، فهو أسرعُ من القطا، وكذلك هو أسرع من الذئب. يقول أيضًا : به الذئبُ محزونٌ كأنَّ عِواءَهُ يخُبُّ ويستنشي وإن تأتِ نبأةٌ أفلَّ وأقوى فهو طاوٍ كأنما عواءُ فصيلٍ آخرَ الليلِ محثلِ على سمعِهِ ينصِبْ لها ثم يمثُلِ يجاوبُ أعلى صوتِهِ صوتُ مُعولِ ففي هذه الأبيات يلجأ الشاعر إلى الوصف المباشر للذئب، فيصفه في حال مقام الشاعر في الصحراء في الليل؛ إنه يركز على الحركة الصوتية للذئب، فصوت عوائه لفت سمع الشاعر، والقوة في الصوتِ كأنها عواءٌ لفصيلٍ من الذئاب، وهذا التهويل في رسم الصورة يجعل المتلقي يعيش اللحظة في كافة مقاييسها. إن هذا الذئب جائع يكر ويفر يبحث عن طعام يسكتُ جوعَه. يقول أيضًا في وصف الذئب : سوى ما أصابَ الذئبُ منه وسُربةٌ أطافَت به من أمهّاتِ الجوازلِ إنه ذكرٌ مختَزلٌ جدا وشديدُ الكثافة بحيث جاء الذكرُ فيه عرضيًّا، ولم يأتِ ذكره في هذا البيت لغرضٍ يخصُّ الذئبَ أو يسهب في ذكر تفاصيله، لكن يكفي ذكرُه كي نستطيع من ذلك أن نقرر أن للشاعر معرفةً حصيفةً بكل ما يتعلق بالعنصر الحيواني الذي تزخرُ به بيئته الصحراوية. * الكلب: الكلبُ يكونُ على الدوام جزءا لا يتجزأ فيما يمكن أن نسميَه " أدوات الصيد " فالصياد يعتمد كثيرا على الكلاب عنصرًا لا يمكنه الاستغناء عنه، إذ إنه يسهل عملية الصيد. يقول ذو الرمة في معرضِ وصفه للكلب : ولاحَ أزهرُ مشهورٌ بنُقبَتِهِ هاجت له جُوَّعٌ زرقٌ مُخَصَّرَةٌ غُضْفٌ مُهَرَّتةُ الأشداقِ ضاريةٌ كأنه حين يعلو عاقرًا لَهَبُ شوازبٌ لاحها التغريثُ والجَنَبُ مثلَ السراحينِ في أعناقها العَذَبُ فالشاعرُ يصفُ في هذه الأبياتِ منظرًا للصيدِ استخدمَ الصيادُ الكلابَ وسيلةً للصيد وحاول أن يصفَها في قمة قوتها وقسوتها، وهذا مما أضفى على الصورة الحركية التي يبتغيها الشاعرُ على الدوام في صورة الطبيعة المتحركة ورصدها في كافة الأبيات التي نظمها لأجل ذلك. إن هذه الكلاب مجوَّعة، والكلبُ يكون شرسا شديد الشراسة حين يكون جائعا منذ أمد، هذه الذئاب قد اتسعت أشداقها وتدلت من شدة الجوع. كل هذه الصفات تشير إلى أن الشاعر لم يألُ شعرا في أن يقدم صورا تفصيلية لكل شيء في كافة المناحي والنواحي التي تكتنفه. الموضوعالأصلي : الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) // المصدر : ممنتديات جواهر ستار التعليمية //الكاتب: مستر
| |||||||
الأربعاء 15 أبريل - 23:11:41 | المشاركة رقم: | |||||||
مشرف
| موضوع: رد: الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) يقول أيضًا : فَكَفَّ من غَربِهِ، والغُضْفُ يسمعُها حتى إذا أمكنته ، وهو منحرفٌ بلّت به غيرَ طيّاشٍ ولا رَعِشٍ فكرَّ يمشقُ طعنًا في جواشنِها فتارةً يَخِضُ الأعناقَ من عُرُضٍ يُنحي لها حدَّ مَدريٍّ يجوفُ به حتى إذا كنَّ محجوزًا بنافذةٍ ولّي يَهُذُّ انهزاما وسطَها زَعِلا خلفَ السَّبيبِ من الإجهادِ تنتحبُ أو كادَ يُمكِنُها العُرقوبُ والذَّنَبُ إذ جُلنَ في مَعرَكٍ يُخشى به العَطَبُ كأنه الأجرَ في الإقبالِ يحتسبُ وخضًا ، وتنتظمُ الأسحارُ والحُجُبُ حالاً ويصرَدُ حالاً لَهذَمٌ سَلِبُ وزاهقًا، وكلا روقيه مختضبُ جذلانَ قد أفرَخَتْ عن روعِهِ الكُرَبُ إنها صورةٌ مبنية على الحس السردي القصصي الذي يسردُ فيه الشاعرُ قصة لصراع مجموعة من الكلاب الضارية مع حمار وحشي شديد القوة، لكن الحمار لم يكن بالطعم السهل لهذه الكلاب فصار يطعنها بقرنيه ويهجم عليها بكل شراسةٍ وأنفةٍ، حتى تخضَّب روقيه بدماء هذه الكلاب، وخرجَ منتصرا فرحا بإنجازه في قتل تلك الكلاب. نرى الشاعر في كل ذلك يحاول أن يقدم الصورة وفيها كل عناصر الحركة، فالحرب والعراك والنزاع والركض والصراع كلها أحداث تمتلئ بحس الحركة، وهذا مما يفعم كما قلنا صورة الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة. يقولُ أيضًا : رأتني كلابُ الحيِّ حتى عرَفنَني ومُدَّتْ نُسوجُ العنكبوتِ على رحلي فهو يقرر في هذا البيت أن الكلاب كانت تقطن في الأحياء المسكونة، ويمكن لها كذلك أن تألف البشرَ وتسكن معه وتعرفهم، وهو يشير هنا إلى طول مكوثه في الحي الذي تقيم فيه محبوبتُه. يقول كذلك : عاينَ طَرّادَ وُحوشٍ مِصْيَدا جُلِّلْنَ سِرحانَ فلاةٍ مِمْعَدا كأنما أطمارُهُ إذا غدا يجنُبُ ضِروًا ضاريًا مقَلَّدا هنا كذلك يصف الشاعرُ صورةً للصراع ما بين الحمار الوحشي والكلاب الضارية التي يبعثها الصائد من أجل أن تأتي به وعليه. وهذه الكلاب من الصفات التي أوردها الشاعرُ لها أنها ضاريةٌ شديدة القوة والجوعِ لها. وهي مقلدة، أي أنها معلَّمةٌ من قِبَلِ الصياد ومقلدةً بقلائدَ يضعها لها الصيادُ. * القطا : وردَ ذكرُ القطا في شعر ذي الرمة، على عمومه من أجل أن يبين مدى السرعة التي تتمتعُ بها ناقته، أو ليقدمَ لنا مشهدا صراعيا ووصفا لبيئة ما تحتوي مثل هذا النوع من الطيور التي تتمتع بسرعتها الكبيرة. يقول ذو الرمة : ومنهلٍ آجِنٍ قَفْرٍ محاضرُهُ فرَّجتُ عن جوفِهِ الظلماءَ يحملني خُضرٍ كواكبُه ذي عرمضٍ لَبِدِ غَوجٌ من العيدِ، والأسرابُ لم تَرِدِ فهو يصف عين الماء لم يأتِها أحدٌ ولم يردْها أحدٌ؛ حتى جاءها هو ورأى ما في مائها من خضرة وهي الطحالبُ التي تتكون نتيجة طول هجر الماء وركوده، هذه العين لم تردها كذلك أسرابُ القطا التي ما تكون عادةً عند عيون الماء. وهو بهذا الوصف يرسم لنا البيئة التي تتواجد فيها مثل هذه الأنواع من الطيور، وهي صورة تشتبك في ذهن المتلقي بمشهد الصراع الذي يكون بين الحمار الوحشي والصياد عند عيون الماء، حيث يكثرُ رسمُ صورة القطا متواجدةً في ذلك المكان. يقول أيضا : ومهمهٍ ناءٍ لمن تكأدا والرئمَ يُعيي والهدوجَ الأربدا يخشى بها الجونيُّ بالقيظِ الردى مشتبهٍ يعيي النعاجَ الأُبَّدا مثنى وآجالاً بها وفُرَّدا إذا شناحي قورِها توقَّدا ويلحظُ قارئُ شعر ذي الرمة في رسم صورة الطبيعة المتحركة أن الشاعر في كل رصده للطبيعة يحاول أن يصور كل ما يكتنفها ويحيط بها ويقف عليها وتتضمنه، محاولا أن يرسمَ صورةً شموليةً لمحتويات هذه الطبيعةِ حتى تصلَ الصورةَ مكتملةً. فهو في هذه الأبياتِ يرصدُ لنا صورة لمكان قفر مستوٍ لا حياةَ فيه، لكن الحيوانات توجدُ فيه بكثرة، فهو مكان يحتوي على الظباء والحمر الوحشية، لكن أسراب الجوني وهي القطا هي الوحيدة التي تخشى في هذا المكانِ الموتَ. يقول أيضًا في وصف الصورة السلبية للمكان القفر الذي تمسي فيه القطا ضحية الجوع والعطش : يموتُ قطا الفلاةِ بها أُواماً ويهلكُ في جوانبها النسيمُ يقولُ كذلك : ومستخلفاتٍ من بلادٍ تنوفةٍ صدَرنَ بما أسأرتُ من ماءِ آجِنٍ سوى ما أصابَ الذئبُ منه وسُربَةٌ إلى مُقعَداتٍ تطرحُ الريحَ بالضحى ينؤنَ ولم يُكسَيْنَ إلا قنازعًا لمُصفَرّةِ الأشداقِ حمرِ الحواصلِ صرىً ليس من أعطانه غيرُ حائلِ أطافت به من أمهاتِ الجوازلِ عليهنَّ رفضًا من حصادِ القُلاقِلِ من الريشِ تنواءَ الفِصالِ الهزائلِ فالشاعر في هذه الأبيات يصف القطا الأم وقد عادت إلى أفراخها الصغار الذين لم ينبت عليهم زغب الريش وما زالت أشداقها صفراء. ونلحظ أن التوزع اللوني عند الشاعر يشير إلى مدى الدقة البصرية في إيصال الفكرة عن طريق الشعر. فهذه القطا تذهب لتأتي بالماء والطعام إلى الأفراخ لكي تطعمها وترويها ماء. فهي على ذلك صورة تكتنفها الحركة من كافة نواحيها. * المحور الثاني: أثر الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرُّمة مما تجدر الإشارة إليه في هذا المحور الذي لن نسهبَ في الحديث فيه، كون مضمونه متَحَدَّثًا عنه في ثنايا المحور الأول من هذا الفصل، - هو أن الأثر الذي أحدثته الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة كان موزَّعا على مجموعة من النقاط سنقوم بذكرها وتفصيلها على النحو الآتي: * التحفيز الفكري في زجه إلى تحريك المعاني وزحزحتها عن ثباتها: لم تكن اللغة المستخدمة في سياق الطبيعة المتحركة كما شاهدنا في المحور الأول قائمة على المعاني ذات المعاني المباشرة، وإنما نجد أن الشاعر قد قام باستخدام ألفاظ حاول من خلالها تحفيز الفكر المتلقي إلى أن يسبروا آفاق ومشارف النص الشعري؛ وتبين معانيه وأفكاره المُرامة من قبل الشاعر. هذه الألفاظ التي تملأ النصَّ حركةً، تجعل من النص مكانا رحبا ومنسابًا نحو اللامحدود من المعنى، واللامحدود من الفكر والتفكير في نطاق كيفية خلق هذه الحركة في نطاق القصيدة الواحدة. فالطبيعة المتحركة على ذلك محاولة منها عن طريق الشاعر وشعره إلى سبر أغوار السكون الفكري والتحليق به نحو طبيعة مفعمة بالحيوية والنشاط المفعمين في خلق البنية الداخلي والخارجية للمعنى النصي. إنها تجعل من النص الواحد نصا متعددا، أو بصياغة أخرى، تجعل منه نصا مفتوحا. * الطبيعة المتحركة تتجلى في الجانب الإيقاعي في القصيدة: هذا الأمر يمكن لنا أن صفَه بإيجاز من خلال أن الشاعر في معظم القصائد التي درسناها في شعره، والتي تتضمن الطبيعة المتحركة في ثناياها، نراه يستخدم البحور الطويلة، والتي تجعل من النص الشعرية نصًا ممتدا متمددا على أكثر من بسيطة شعرية وفكرية ومعنوية. فطول البحر الشعري يساعد في التنوع الإيقاعي والتحريك الموسيقي في القصيدة، والسرد القصصي الذي يستخدمه ذو الرمة هو الذي يخلق في النص كذلك الأمر انسيابا إيقاعيا وموسيقيا يجعل من النص الشعري محركا لذاته بذاته. فالانتقال ما بين المقاطع الطويلة والقصيرة هو انتقال حركي، يوائم ويوازي تنقل الحيوانات التي هي موجودة في صورة الطبيعة الحركية في قصائد ذي الرمة. والانتقال من تفعيلة إلى تفعيلة في القصيدة هو كذلك انتقال يبث الحركة في النص الشعري لذي الرمة، فالقصيدة في نطاق الطبيعة الحركية في شعر ذي الرمة هي حركة في كافة مقاييسها وسبلها. * الأثر الشعري الرجعي في الانتقال إلى فن شعري سابق: يمكن لنا أن نوضحَ هذه النقطة من خلال أن من يتأمل بنائية الصورة الشعرية بشكل عام عند ذي الرمة، وبشكل خاص في صورة الطبيعة المتحركة عنده يجدْ أن الصورة الشعرية عنده هي أقرب ما تكون، بل هي تماثل وتناظر الصورة الشعرية في العصر الجاهلي، وهو انتقال حركي معنوي في البناء الشعري يمكن لنا أن نصنف الطبيعة الحركية في سياقه. فالانتقال البنائي من فن إلى فن هو إدماج وتكثيف لطبيعة صورة الطبيعة الحركية في شعر ذي الرمة، مما يساعد في تقوية المعنى الشعر الذي يريده الشاعر. وهذا الأمر يقوم بخلقه المتلقي أثناء تناوله لمفردات القصيدة ومعطياتها. إن الانتقال من عصر إلى عصر من خلال البناء الشعري أمرٌ لافت للنظر القارئ، فمن يتأمل في شعر العصر الأموي يجد أن الشعر في هذا العصر سهل الألفاظ ليّنها، يتميز باللغة الحضرية البعيدة عن الجلافة والصعوبة. أما شعر ذي الرمة فليس شبيها على الإطلاق بشعر شعراء عصره بل هو في حركة انتقالية رجعية يرسم من خلالها عصرا جاهليا جديدا في شعره، مما يمكن لنا أن نطلق عليه، إن جاز لنا التعبير، بأن شعره شعر مخضرم؛ أي أنه يجمع بين عصرين من حيث البناءُ الفني، فهو يدمج بين زمن الشاعر الموجود في العصر الأموي، وبين زمن الشعر المعنوي الموجود ضمنا في العصر الجاهلي؛ من حيث الألفاظ والمعاني والتراكيب والصور والبناء الفني للقصيدة العربية، ومن خلال كذلك على سبيل المثال الوقوف على الأطلال ووصف الحيوانات الصحراوية ومغامراتها مع الصيادين، ومثل ذلك كثير يصعب حصره. ومن هنا فكل هذه الأمور كان لها أثر تتضمنه صورة الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة، مما جعل القصيدة له قصيدةً مفعمةً بحركة في كافة محاورها وحيثياتها وكيفياتها. وهذا ما سنقوم بتوضيحه في الرسم البياني التالي: المحور الثالث العلاقات بين الوصف والموصوف في الصورة المتحركة في شعر ذي الرمة هنا، أقصدُ في هذا المحور، يكون الأمر أكثر جلاءً حين نفسر الحركة الشعرية لصورة الطبيعة المتحركة والعلاقات القائمة بين الوصف والموصوف في بنائية هذه الصورة التي تعتمد في كليتها على بناء ورصف محكم للألفاظ والمعاني الشعرية التي تجعل العلاقة ما بين الوصف والموصوف علاقة تواؤمية تآلفية لا فرق بينهما؛ حتى كأن الوصف والموصوف صنوان لا يختلفان. وإن هذا الأمرَ لنلحظه بشكل واضح وحاضر من خلال تنقلنا في صورة الطبيعة المتحركة في كافة نواحيها موضوعاتها، من خلال تناولنا لصورة الحيوان في شعر ذي الرمة. فالعلاقة على سبيل المثال ما بين الناقة والحمار الوحشي هي علاقة قوة وفحولة ودهاء وقدرة على السيطرة والإمساك بزمام الأمور. أما العلاقة بين الناقة والنعامة فإنها علاقة سرعة ورشاقة وقدرة على التحمل والصبر على قسوة الصحراء. أما العلاقة بين الناقة والثور فهي شبيهة بالعلاقة ما بين الناقة والحمار الوحشي. وهناك علاقات ما بين الوصف والموصوف لحظناها بجلاء من خلال تشبيه الشاعر المرأة بالظبية، وهي علاقة أقرب ما تكون إلى التوازي أو التناظر في طبيعة التشبيه؛ وما نقصده بذلك هو علاقات الجمال المقترنة بالظبية والمتواجدة في المرأة من حيث القدّ والبياض وجمال العينين وطول الجيد والرشاقة ومثل هذه الأمور التي تخلقها في أغلبها البيئة التي يعيشها ذو الرمة ويستنبت من خلالها جميع صورها فتأتي ماتحة من الطبيعة الصحراوية، تنبثق غيرَ متخالفة بل هي متآلفة شديدة التآلف والانسياب الصوري الموجود في البنية الشعرية للقصيدة. هذا الأمر يمكن لنا أن نوضحه من خلال الرسوم التوضيحية التالية التي تبين لنا طبيعة هذه العلاقات: وقد بينا العلاقة بين المرأة والظبية أثناء تناولنا لصورة الظبية في شعر ذي الرمة في المحور الأول من هذا الفصل. والذي يتبين لنا من خلا الرسوم الآنفة الذكر هو أن جميع هذه العلاقات القائمة بين المشبه ( الناقة / المرأة ) والمشبه به ( حمار وحشي / ثور / ظبية ) هي علاقات تداخلية وليست علاقات دخيلة على كلا الطرفين، وما نقصده بذلك هي أنها علاقات أصيلة عند الطرفين ومن أجل ذلك كان الربط بينهما، وليست هذه التشابهات من وحي الشاعر واختلاقه الموضوعالأصلي : الطبيعة المتحركة في شعر ذي الرمة ...( محمود خالد البنا ) // المصدر : ممنتديات جواهر ستار التعليمية //الكاتب: مستر
| |||||||
الإشارات المرجعية |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 20 ( الأعضاء 3 والزوار 17) | |
|
| |
أعلانات نصية | |
قوانين المنتدى | |
إعــــــــــلان | إعــــــــــلان | إعــــــــــلان | إعــــــــــلان |