دراسة نقدية بقلم الناقد / صادق إبراهيم صادق للمجموعة القصصية القصيرة جداً (هى والمستحيل)
- اقتباس :
دراسة نقدية بقلم الناقد / صادق إبراهيم صادق للمجموعة القصصية القصيرة جداً (هى والمستحيل) للقاص مجدى شلبى
................
إنّ انفتاح القصة القصيرة جدا على أجناس وفنون أخرى، أدبية وغير أدبية، قديمة وحديثة، واستفادتها من تقنياتها ومقوِّماتها في التأسيس لكيْنونتها الفنية، ليس معناه، مطلقاً، تبعية القصة القصيرة جدا لتلك الألوان التعبيرية، واستنساخها لها...
فحين نتصفح ما ألِّف من دراسات في نقد هذه الجنس الأدبى المستحدث نجد أن النقاد قد اختلفوا بشأن طبيعة هذه الخصائص والجماليات، وعددها كذلك، اختلافاً ينمُّ عن تفاوُت اجتهاداتهم في هذا الصدد ما بين اجتهادات عميقة رصينة استطاعت وضْع اليد على كثير من تلك الخصوصيات، واجتهادات مَشُوبة بخلط ونقص واضحين جعلت أصحابَها يجْرُدون عدداً من مقومات القصّ التي لا تقتصر على القصة القصيرة جدا فقط، بل تنسحب أيضاً على الأقصوصة، مما يجعل مفهوم “الخصائص”، هنا، غير ذي معنى!
وإذا كان بعض الدارسين ما زال يتحفّظ، اليوم، من الحديث الصُّراح عن خصائص مميّزة للقصة القصيرة جدا، التي قطعت شوطاً مهمّاً في أدبنا المعاصر، وعرفت تطوراً واضحاً من حيث الكمّ والكيف معاً، فإننا نرى موقفاً من هذا القبيل غير مقبول البتة، لأمْر واحد أساس، وهو أن القصة القصيرة جدا، الآنَ، قد اغتدتْ نوعاً سردياً قائمَ الذات، ذا حضور متزايد في الساحة الأدبية، وتملك عدداً من المميِّزات فضْلاً عن المقوّمات التي تتقاسمُها مع فنون وأشكال تعبيرية أخرى عديدة.
وهذا ما أكده جاسم إلياس بقوله: “إذا كان سؤال: هل ثمة خصائص ومقومات فنية وبنائية ولغوية للقصة القصيرة جدا؟ سابقاً لأوانه في بداية العقد السبعيني من القرن العشرين، بحُجّة أنها لم تقدمْ لنا حصاداً غزيراً يكفي لأنْ نستقرئ منه خصائص متميزة تحددها ضمن “قوالب” أو أصول نهائية، فإننا في القرن الحادي والعشرين نمتلك كَمّاً هائلاً من القصص القصيرة جدا
ولنقاد القصة القصيرة جدا عندنا إسهاماتٌ، أيضاً، في هذا المضمار. فالناقدُ العراقي أحمد جاسم الحسين يحْصر خصائص القصة القصيرة جدا في النزعة القصصية، والجُرأة، والوحدة، والتكثيف. ويجعلها الناقد السوري نبيل المجلي خمْساً، هي: الحكائية، والتكثيف، والوحدة، والمفارقة، وفعلية الجملة. ويبلُغ بها مواطنُه سليم عباسي تسْعاً، كالآتي: الطابع الحكائي، والتكثيف، والمفارقة، والسخرية، والأنْسَنَة، واستخدام الرمز والإيحاء والإيهام والتلميح، وطرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدْمَتها، والاعتماد على الخاتمة المتوهِّجة الواخزة المُحيّرة. وتختزل لبانة الموشح خواصّ القصة القصيرة جدا في ثلاثٍ فقط، هي: الحكائية، والتكثيف، والإدْهاش. ونجد الأمر نفسَه لدى جاسم إلياس، وإنْ استبدل الخاصّة الثالثة لدى لبانة بخاصّية اللغة المُوحية الرمزية التي تعد المحور الذي ترتكز عليه باقي مكونات القصة الأخرى. كما أنه يؤكد أن للقصة القصيرة جدا جملة تقنيات خاصة تتوسَّل بها في التعبير عن الذات والمجتمع وأشياء الوجود عامة، أهمها: المفارقة، والتناص، والاستهلال والخاتمة.
وهى الحالة القصصية المستمدة والنابعة من الفن الأم، فن القصة القصيرة، ذلك الفن الآسر المحبب إلى النفس، والمراوغ فى نفس الوقت فى إيجاد تجربة جديدة تتولى الإقتصاد فى اللغة والإيجاز فى حجم متن القصة لتجسيد وتوصيل رؤية تستطيع أن تتواءم مع إيقاع العصر، وتوجهات واقعه، وحداثة مضامينه، ولا شك أن هذه الجهود قد خرجت من إبداع وتجريب بعض الكتاّب الذين حاولوا تأصيل هذا النوع من الكتابة من خلال مغامرة فى هذه الظاهرة الجديدة، وتجريب فى الشكل الفنى أوصلها إلى هذه الظاهرة التى بدأت تتغلغل داخل الساحة الأدبية بإلحاح شديد .
نجد فى مصر جهود محمد المخزنجى، وفى الكويت وليد الرجيب، وفى فلسطين محمود شقير وغيرهم من الكتّاب فى أنحاء العالم العربى وضعوا لهذا الفن خصوصية نصية مبتكرة وفاعلة فى ساحة القصة القصيرة العربية على إطلاقها .
ومن تجليات القصة القصيرة جدا هذا التنوع والتعددية فى المشهد الذى لم تتضح إلى الآن بعض معالمه، على الرغم من ثراء النشر ومحاولة إيجاد نصوص لها الدور الفاعل فى الساحة الأدبية .
حيث تبدو بعض النصوص المقدمة من بعض الكتّاب ملغزة فى بعض الأحيان، كما يبدو بعضها أيضا مضبب الرؤية، وغير واضح التجربة مما يلقى ظلالا من الشك حول جدوى الكتابة والتلقى فى مثل هذا النوع من القص .
ولا شك أيضا أن " الموضوعية قد تتطلب التأكيد على أن نص القصة القصيرة جدا فى بعض التجارب الناضجة يبدو وكأنه نص ثرى، غنى، خصب، مما يجعل لتلقيه سمات خاصة تتعلق بالمتلقى حيث تفرض عليه كثيرا من الاجتهاد فى التأويل والتلقى ومحاولة مشاركة الكاتب فى كتابة النص مرة أخرى عن طريق قراءته قراءة متأنية واعية، فالقصة القصيرة جدا نص إبداعى لا شك يترك أثرا ليس فيما يخّصه فقط، بل يتحّول ليصير نصا معرفيا دافعا لمزيد من القراءة والبحث، فهو محرض ثقافى يسهم فى تشكيل الثقافة عبر تناصاته ورموزه وقراءاته للواقع، وعبر متطلباته التى يفرضها حيث تحثّ المتلقى على البحث والقراءة
.....
وقد استطاع القاص مجدى شلبى من خلال المجموعات القصصية القصيرة جدا التى قدمها حتى الآن (أصل و100 صورة) و(حُمرة خجل) و (غروب) و(المزلقان) وما نحن بصدد دراسته الآن لمجموعة (هى والمستحيل) ان يصل بنا الى الومضة والى مكونات القصة القصيرة جدا ويعتبر من الادباء الذين نجحوا فى ترسيخ مفهوم القصة القصيرة جدا وهذا ماسنلاحظة فى هذة الدراسة المهمة عن هذه المجموعة :
………
فالمجموعة القصصية القصيرة جداً (هى والمستحيل) ومضات شديدة التكثيف دقيقة الوصف والتعبير قوية الدلالة * ففى ومضة (تجربة) ربط بين الكأس والشفاة والحب وان الرجل لا يحب المراة التى تتناول الكأس وقد اهتم القاص بالحوار بشكل يشعرك وكانك تعيش وقائعه وتشارك الرجل فعله أو رد فعله فتكاد تقول فى نفسك (أنا هذا الرجل)
"أجابتة بتلعثم: لالا طبعا جر== جر== جرجربتة"
هذة العبارة تؤكد ان المراة قد وقعت تحت تاثير المخدر
"انتفض مذعورا قبل ان تكمل العبارة"
حوار متمكن ونهاية مفاجئه حيث أن الذعر هنا يعبر بدقة عن الخوف والهروب..
وإذا كانت تجارب الإنسان فى الحياة تزيد من خبراته وتثقل قدراته وإمكاناته فإن التجربة هنا تُعد وصمة عار على (مرتكبتها)
ففى الوقت الذى يتباهى فيه الرجل بتجاربه العديدة فى الحب دون تحرج ... يضع قيداً على الجنس الآخر فى الإفصاح عن ذلك بل ويعتبره عيباً وجرماً لا يُغتفر !
ومن هنا يتضح أن الاختيار الموفق للعنوان (تجربة) قد عبر عن تلك الازدواجية فى المعايير والتى تفرق بين تجربة وتجربة تفرقة عنصرية على أساس الجنس .
......
* وفى (هرولة) نجد الكاتب قد استخدم قدرته المميزة فى فن المفارقة اللفظية فى عبارة "سقطت بنجاح"
ولأن السقوط هنا كان سقوطاً مقصوداً وهو حالة فريدة تفتح المجال أمام القارىء للتأويل : هل المقصود هو المعنى المباشر للسقوط وهو سقوط الجنين الذى أتى سفاحاً .. أم أن لغة الرمز تعبر عن التخلص من أثر الخطيئة أياً ما كان نوعها ؟
إن بداية القصة تجعلنا ننحاز إلى لغة الرمز فقد ذكر : " هرولت نحو الأشجار تدفعها رغبة جامحة"
تلك الاشجار المثمرة التى ترك تحديد نوعها لتأويل القارىء هل هى شجرة التفاح التى أخرجتها وزوجها من الجنة... وتبع ذلك محاولة التخلص من أثر تلك الخطيئة رغبة فى العودة إلى نعيمها الذى كان ... والذى ينتظر التائبين المستغفرين ...
إن عنوان (هرولة) حمل معنى الهرولة نحو الخطيئة فى البداية ... ثم الهرولة نحو محاولة التخلص من أثرها والتوبة النصوح التى لا معصية بعدها ...
.......
* فإذا انتقلنا إلى ومضة تالية وجدنا (مرآة الحب) تواجهنا وهى تلك المرآة التى عبر عنها بصدق مأثورنا الشعبى الخالد (مرآة الحب عميا) فلا يرى الناظر من خلالها إلا مايحب أن يرى وهى بهذا تًعد مرآة مخادعة خداعاً يعمينا عن الحقيقة الواقعة التى قد تحتاج إلى إصلاح ...
وللومضة المعروضة مغزى معبر عن حالة الاستمساك بالخطأ والاستماتة فى الدفاع عنه وعدم قبول الرأى الآخر بل كما ذكر بالنص : "أعماهم حتى لا يروا إلا مايرى"
إن العنوان (مرآة الحب) عنوان دال ومناسب للتعبير عن حالة حب الذات "معشوقته" التى يراها "فى أبهى صورة" وأجملها وأكملها ....
.........
* ثم تأتى (إشارة) تلك الومضة العبقرية التى لخصت أحد الطبائع البشرية "هرولت إليه إحداهن = تركها وجرى خلف الأخرى" شأنة فى هذا شأن الكثيرين ممن لا ينتبهون إلى ماهو قريب منهم لصيق بهم .. فيسعون دوماً إلى العصى البعيد ...
وعنوان (إشارة) عنوان موفق لما له من دلالة على تلك الإشارة المعبرة عن حالة عامة وليست خاصة ببطل الأقصوصة وحده
.......
والقارىء للمجموعة (هى والمستحيل) يكتشف أن نهاية كل قصة تسلمك للقصة التالية وهو أمر مدهش يستحق الإشارة إليه والثناء عليه
* تأتى الحلقة التالية من المجموعة معنونة بـ (ضياع) فتتناول حالة فقد الحبيبة التى ترمز للأمل "فى متاهة الحياة فقد حبيبته = أضناه البحث عنها = وجدها جثة هامدة فى يد عجوز ثرى" ... ففى الواقع المادى يلعب المال دوره فيمنع الفقراء ويمنح الأثرياء الذين يتباهون بقدرتهم على شراء كل شىء بأموالهم ... وتأتى عبارة "وجدها جثة هامدة فى يد عجوز ثرى" معبرة عن عدم قدرة هذا الثرى على شراء مشاعرها والاستحواذ على عواطفها والاستئثار بها فهى تمنحه جسدها لكن بلا روح...
والعنوان (ضياع) يعبر عن ضياع مزدوح للمحب وللحبيبة فى آن واحد
.........
* ثم تأتى (دُمية) تلك التى تتمرد على واقع القهر والتسلط فـ "تنتفض خارج الرقعة المحددة لها" وإذا بها عندما تتحرر تكتشف أن هذا المتسلط ليس سوى "دمية فى يد أخرى"
ويلح على ذهنى الآن أحد الأمثال الشعبية (لا تعايرنى ولا أعايرك الهم طايلنى وطايلك)
وليس بخاف على أحد دلالة الرمز الذى يتجاوز العلاقة بين الرجل والمرأة إلى العلاقة بين الحاكم والمحكوم ... ومن هنا يصبح للعنوان دلالته الأقوى وتعبيره الأدق ...
..........
ولأن كاتبنا هو كاتب ساخر فقد عمد إلى أن يطعم مجموعته القصصية بومضات تبثها روحه المرحة من خلال لوحات كاريكاتورية كالتى عناوينها :
* (تحايل) و (المتأرنب) و(سراب) و(خجول) ... وأترك للقارىء مطالعة تلك النصوص الأربع مكتفياً بالإشارة إلى ما تحققه من متعة وما تضفيه من بسمة وما تبعثه من أمل على وجوه أضناها الحزن والألم ..
...........
لقد جعل الكاتب من العلاقة المتأزمة دوماً بين الرجل والمرأة محوراً لكل قصصه القصيرة جداً
ولعل عنوان المجموعة وما عمد له من تقسيم الكتاب إلى أربع أبواب (فى الحب) (فى الخطوبة) (فى الزواج) (فى الوداع الأخير) لدليل قاطع على تلك الوحدة فى الموضوع وإن تعددت الرؤى وتنوعت الأساليب ... وهو تنوع فى مساحة رحبة أتاحت للكاتب التنقل بحرية من مشهد إلى آخر بإبداع ممتع ومشوق ....
...........
لقد تعرضنا خلال هذه الدراسة المقتضبة لعشرة نصوص من خمسين قصة قصيرة جداً كون بها القاص مجدى شلبى مجموعته (هى والمستحيل)
ولا يبقى إلا التأكيد على أن الاديب الحقيقى هو الاديب الذى يشق طريقة متمتعاً بهوية فكرية وخلفية ثقافية ومنطلق اجتماعى وواقعى بانياً من ذالك مشروعة الادبى المتكامل وهذا هو المؤلف مجدى شلبى الذى أدرك اهمية القصة القصير ة جدا وقيمتها كما وعى كونها كجنس ادبى ملائم للعصر فوظفة أحسن توظيف وبالاحرى يمكن القول انة قد ادرك ان القصة القصيرة جدا من القوالب الفنية القادرة على استيعاب ماصدر من افكار تجسد لغتة فى البناء والاصلاح
والملاحظ ان القاص مجدى شلبى فى مجموعتة القصصية هى والمستحيل والتى تبلغ خمسون قصة قصيرة جدا بين الحب والخطوبة والزواج والشمولية الانسانية العامة وقد استطاع من خلال نسق فنى متكامل البناء وقدرة على التقاط اللحظة الفنية والفكرة الخاصة بقصتة وتكثيف يسعىلإحداث التناغم فى الفكرة والاداء معا واستطاع بتلك المجموعة من الومضات الفنية ذات الدلالات المتعددة أن يكشف مساحة عرضة من الوعى الذاتى والحياتى والوجود الانسانى
إن مجدى شلبى عمل على استيعاب الحبكة والفضاء القصصى والحكى والتركيز على طبيعة الرؤية المحكمة فى منهج الكتابة وهذا ما لاحظناه وأشرنا إلى جانب منه بما سمحت به المساحة والوقت ... متمنين له دوام التوفيق فى مسيرته القصصية على درب التميز والإبداع
مع تحياتى ومحبتى
_