صوات الأجراس لاتزال تصفـر داخل أذني، ممـا جعلني أقوم من فراشي مرغمـا، متوجها نحو نافذة غرفتـي من أجل معرفـة مصدر هذه الأجراس، بمجرد فتحهـا أطل على وجهـي شعـاع أبيض، يعمي البصـر، لم أستطـع تحمله، و بحركة لا إراديـة، قامـت يدي بتغطيـة وجهـي لحماية عينـاي، بعد ثوان، أرخيـت يدي، و أزلتهـا من علـى وجهـي، فأطلت من النافذة، لأسمـع ضجيجـا ممزوجـا مـع صوت الأجراس، أطلت النظر هنـا و هنـاك، لكن المكـان يبدو خـالي، فقط حرارة الصيـف، و بعـص الذبـاب مجتمـع على القمـامة، وصوت الصراصيـر تغنـي أغنيتهـا المعتـادة، هذا ما رأيته، لكن ما كنـت أسمعـه، لازلت أسمعـه، لكن لا أراه، رغـم أن مصدر الصوت قوي، وكأنه يبعد منـي مسـافـة قصيـرة. أغلقـت نافذة غرفتـي، و ترنحـت على فراشـي البـارد، ووسـادتـي النـاعمة، أخرجت تنهيدة، و أدرت ظهري، نـائمـا على جنبـي الأيمـن، لـكن مـا إن قمـت بإغلاق جفنـاي، و بدا صوت الأجراس يعلو شيء فشيئـا، وكأنه يقترب من المكان الموجود فيـه، و هذه المرة لـم أستطـع منـع نفسـي، فوقفـت بشموخ، عكس المرة الأولى التي قمـت فيهـا بكسـل، فتحت نافذة الغرفـة مجددا، و أطلت النظر، لكن مجددا كـان ما رأيته في المرة الأولـى، أراه الآن، و صوت الأجراس و ضجيج النـاس لايزال مستمـرا. هممت للحمـام، فرشـت أسناني بمعجون الأسنـان و الفرشـاة، و غسلـت وجهـي، مرتديـا قميصي الأحمـر الصيفي، و الذي يجمـل شعـار فريق أرسنـال الإنجليزي، و على ظهره يحمـل رقـم 17 للاعب التشيلي أليكسس سانشيز. أخذت كسرة من الخبز كـانت موجودة داخل الطبـق، وهممت بالخروج، و كلي فضول لمعرفـة مصدر الصـوت، أغلقـت البـاب، وسرت بإتجاه الشمـال، حيث كان مصدر الصوت قادمـا منـه، وياللحرارة الحـارقة، وياللهواء السـاخن، الذي يلامـس جسدي، و بينمـا لا أزال متتبعـا مصدر الصـوت، و لحد الآن لم أجد مصدره، سرت و سرت، حتى جف حلقي عطشـا، فتوجهـت نحو محل، فاشتريت منـه قنينـة مـاء زرقـاء مثلجـة، و بعد أن سلمـت له النقوذ، سألتـه قـائلا: " هـل تعرف مصدر صوت هذه الأجراس المزعجـة ؟ " فأجابنـي مندهشا: " أي أجراس تقصـد ؟ "
" هذه الأصوات، التي أسمعهـا حاليـا...."
" لكنـي لا أسمع أي صوت، ما عدا صوت الصراصير..."
لم أهتـم لـه أصلا، فعلى ما يبدو، كان يبدو شيخـا في الستين من عمره، حيث قرأت مرة في إحدى الكتـب الموجودة في مكتـب جامعتنـا، أن الإنسـان، كلما كبُر في السـن، تبدأ حواسه في الضعـف، فبالرغـم من أني لم أكن أحب قراءة الكتـب كثيرا، إلا أنه في تلك اللحظة كنـت أشعر بالملل، بسبب عدم حضور أستـاذ الحضـارة القديمـة، فبالرغـم من أني كنت أنتمي لشعبة التـاريخ، و بالرغم من أنها تطالب دراسهـا، بقراءة أكبر عدد من الكتـب، وخصوصا الكتب التاريخية، إلى أني لم أكـن مهتمـا بقراءة الكتـب، فهي تشعرني بالملل الشديد، وترهقني، فأنا أفضل ممارسة العمـل الجسدي، بدل العمـل الفكري، فحدودي هو أربـع صفحـات. واصلـت تتبـع مصدر الصوت، و دون أن أحس بالوقـت حل الغروب، حيث منذ فترة الظهيرة و أنا أسير متتبعـا مصدر الصوت. قررت العودة، لكنـي شيء ما في داخلـي كان يقول لي، لقد قطعـت أزيد من نصف الطريق، لم يتبقـى لك شيء لتشبـع فضولك، فكان هذا هو سبب مواصلتـي. فتوقـت هذه المرة، طارقـا باب إحدى المنـازل، فأطلـت علـي من النـافذة، إمرأة في الثلاثينيـات من عمرهـا، ذات وجـه نحيف نـاصع الأبيض، وشفة حمراء داكنـة، و شعرهـا الحريري يغطي الجانب الأيمـن من عينهـا، فقامت قـائلة: " هل اريد شيئـا مـا أيهـا الولد ؟ " فحمحـت قائلا: " آسف على الإزعاج، فكل ما أريده هو أن أطرح عليك سؤالا مـا...." و بعد أن إنتهيت من كلامي، مباشرة، قامت بإغلاق نافذة الغرفـة، ثواني قليلة، لتفتح البـاب لـي، طالبـة منـي الدخـول، و قد كـانت ترتدي قميصـا رقيقـا أبيض و في وسطـه صورة أرنبة لطيفـة، وكـانت ترتدي أيضا سروالا قصيرا جدا، يغطي سـاقيهـا البيضـاء النحيفـة، حتى أنه لم يصل لكربتيهـا، و في الحقيقة، كانت تبدو جذابـة، و كأنها شـابـة في الشعرينيـات من عمرهـا، إلا أن ملامـح وجههـا كانت تقول عكـس ذلـك. بعد دخولـي و كلي خجل، لأني نوعـا مـا لم أكن قريبـا جدا من الفتيـات في حيـاتي، فقط كـان بيني و بينهـم مجرد التحيـة، و أكثر فتـاة كنت قريبـا منهـا، كـانت جارتنـا و التي تبلغ عشرون سنـة مثلـي، و قد عشـت معهـا طفولتـي، لكن شـاءت الأقدار أن رحلو لمدينـة أخرى بسبب ديون ولدهـا، حيث أضطرو لبيع المنزل. فأخذتنـي لغرفتهـا و قالت لـي: " و الآن، هل تريـد أن أجلب لك العصير أولا، أم بعد أن تطرح سؤالك ؟ " فأومئـت قـائلا: " اليوم بطولـه و أنا أسير، لذلك سيكون من الجيد أن يكون العصيـر أولا .... " فتوجهـت للمطبخ، لتحضـر لـي العصيـر، بينمـا أنا كنـت أطل النظـر لغرفتهـا الفوضويـة، حيث كـانت ملابسهـا الداخليـة منتشرة في كل مكـان، وهـاتفهـا ملقيـا على الأرض، و علب الطعام ملقيـة على الأرضيـة، وما لبثت بضـع دقـائق، حتى أحضرت لي كأسا من عصير البرتقـال المنعـش، مـا إن شربتـه دفـعة واحدة، حتـى شعرت بعودة طاقتـي، بعد إنهـائي لكأس العصير، لم أجد يئـا أضعه عليـه، فطلبـ مني أن أضعـه على السرير، فإستطردت قـائلـة: " بعد أن شربت العصير، يمكنك الآن طرح سؤالك، فيلزمنـي غدا أن أنهـض باكرا، من أجـل أن أسـافر خلال هذه الحرارة اللعينـة " فأومأت موافقـا، قـائلا: " لقد سرت طوال اليـوم متتبعـا مصدر صوت الأجراس، و كلمـا أسير بضع خطوات، أحس و كأني أقترب من مصدر الصـوت، لكن ظللت طوال اليوم و أنا أسير و لحد الآن لم أجد مصدر الصوت...." فعقدت حاجبيهـا قائلة: " وما المطلوب منـي بالضبط ؟ " تفاجأت من ردة فعلهـا، فقد كنـت أنتظر ردة فعل أخرى، مثل ذلك الشيـخ الهرم، أو شيء من هذا القبيل، فأكملـت قائلا: " هل حتى أنت تسمعين صوت الأجراس ؟ " فأجابـت مبـاشرة: " نعـم، حتـى أنا أسمع صوت الأجراس، وضجيج بعض الأشخـاص، في الحقيقة منذ أربـع سنوات و أنا أسمـع هذا الصوت..." فقـامت بإخرج علبـة سجـائر من تحت وسـادتهـا، وولاعـة، لتستطرد قـائلا: " بسبب هذا الصوت خسرت أربـع سنوات من عمري.... لقد كنـت لا أنام الليالي و كلي فضول لمعرفـة مصدر هذا الصوت، ليلة بعد ليلة، جتى أني أصبحت آكل الحبوب المنومـة، و بالرغـم من أن الهدف من أجل إيجاد مصدر هذا الصوت كان غبيـا، إلى أن الفضـول كـان سببـا في تدميـر حيـاتي، فبسبب عدم مقدرتي على النوم، دخلـت المشفـى، لمدة أسبوع كامل، و بعد خروجي، لم أكن أركز في عملي كثيرا، حتى أنه تم فصلي من الشركـة، و قعدت في المنزل أعتمد على شفقة والدي، لكن هذا الصوت أصبح يتبعني أينمـا ذهبـت، لم أقدر على الصبـر، فكنت كل ما أسمع صوت الأجراس أخرج من المنزل، و أتتبع مصدره، لقد أصبحـت عبدا لشيء وهمـي...." بعد أن أنهـت حديثهـا، قامت بإشعال سجارتهـا، و نفص الدخان إلى الخارج، بعد أن فتحت النافذة، فهممت أنا قائلا لـها: " شيء وهمي ؟ " و بعد أن أنهـت سجارتهـا، إستطردت قائلة: " نعم هو شيء وهمي، فكيف تفسر عدم وصولـك لمصدر الصـوت، لحد الآن، فأنا لمدة أربـع سنوات وأنا أتتبع مصدر الصـوت، ولحد الآن لم أجده، إنها غريزة الإنسـان، إنه الفضول القـاتل، و الذي أدى ببني الإنسـان لتدمير نفسـه بنفسـه، أو بالأحرى إنـه عقـاب إلهـي لنفـس البشرية، ما إقترفتـه من ذنوب وجرائـم..." فأخرجت سجارة أخرى من علبتهـا الحمراء القاتمة والببضـاء، فإستطردت قائلـة: " أنصحـك بأن تضـع حدا لهذا الشيء، قد أن تبدأ بالهلوسـات الفارغة، وجنون العظمـة..." فسألتها وكلي فضول كيف أضـع حدا لهذا الشيء قبل أن يبدأ تأثيره، فإبتسمـ بخباثـة قائلة: " أن تضـع لحد لنفسـك...."