النمو الاقتصادي أم الحفاظ على البيئة؟إن المستويات المرتفعة للنشاط الاقتصادي وأسلوب الإنتاج الذي اتبعته الدول المتقدمة ولازالت تتبعه، كذلك سعي الدول النامية إلى محاكاة تجربة الدول المتقدمة في سعيها إلى تحقيق التنمية المنشودة، وترافُق ذلك مع انتقال رأس المال الأجنبي المباشر إلى الاقتصادات النامية والمتحولة بسبب الضغوط البيئية في الدول المتقدمة، إضافة إلى التزايد السكاني المتسارع، كل هذا أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة وحدوث تغيرات فجائية وسريعة في المناخ، إضافة إلى نفاذ غشاء الأوزون وتدمير الغابات المطيرة والتصحر وتسميم المياه، بحيث أدى ذلك إلى إن الطبيعة أصبحت عاجزة عن القيام بما كانت تقوم به منذ الأزل، أي عمليات التجديد الحيوية للموارد الطبيعية.
إن التطورات السابقة تفرض، إما إبطاء نمو النشاط الاقتصادي العالمي إلى درجة تتوافق مع متطلبات الحفاظ على البيئة، أو على نحو يتيح للطبيعة إصلاح ما أفسدته يد الإنسان، وهذا مستحيل في ظل النظام الاقتصادي العالمي الذي يشكل مثل هذا التباطؤ موتا حقيقيا له، كما إنه غير قابل للتحقيق في ظل النمو الديموغرافي الهائل وتنامي عدد سكان الأرض بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وإما تعديل التكنولوجيا وأنماط التطور وعقلنة النشاط الاقتصادي ونمط معيشة الإنسان الحديث عموماً، بشكل يجعله "يتصالح" مع البيئة في سبيل خدمة المصالح الحقيقية للأجيال الحالية والقادمة.
فعبر آلاف السنين ظلت العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية في حال من التوافق والانسجام، فالإنسان لا يستهلك من الموارد إلا ما هو بحاجة إليه، وهذا ما دعت إليه أساطير الحضارات القديمة كذلك الأديان السماوية، إضافة إلى هذا فإن سيطرة الإنسان على الطبيعة لم تكن قوية ومحكمة بل على العكس كانت الطبيعة ذات تأثير نفسي وحياتي عليه، إلا أن هذا التوافق والانسجام بين البيئة والإنسان تحول إلى تعايش سلبي (غير متوازن) مع بداية الثورة الصناعية ومن ثم اكتشاف النفط، وحتى ذروة النمو في النصف الثاني من القرن العشرين.
لقد أفرزت التطورات البيئية في العقود الأخيرة إلى الوجود فرعاً جديداً من فروع العلوم الاقتصادية، وهو (علم اقتصاد البيئة) الذي يعرّف على أنه (العلم الذي يقيس بمقاييس بيئية، مختلف الجوانب النظرية والتحليلية والمحاسبية للحياة الاقتصادية ويهدف إلى المحافظة على توازنات بيئية تضمن نمواً مستديماً)، وبمقارنة هذا المفهوم البيئي لعلم الاقتصاد مع المفهوم الكلاسيكي لعلم الاقتصاد والذي يعرّف على أنه (العلم الذي يبحث في الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية بهدف تحقيق أكبر ربح ممكن، أو إشباع الحاجات الإنسانية بأقل تكلفة ممكنة)، نجد أن المفهوم الكلاسيكي لعلم الاقتصاد بدأ يتغير ولم يعد متناسباً مع متطلبات تطور النشاط الاقتصادي ومتطلبات التنمية المستدامة والضغوطات البيئية،
14:00