جهنّمية المخدرات في "بيجاما الرجّالة" المثقوبةفاطمة عبدالله
خشينا على نيللي كريم من نمطية دور مدمني المخدرات، بعد دورَيْن من التميُّز في "ذات" (رمضان 2013) و"سجن النساء" (رمضان 2014). يأتي "تحت السيطرة" ("سي بي سي"، "القاهرة والناس") ليضع كريم أمام تميُّز آخر. امرأة تمثّل بأنفاسها وكلّ ما تملك. تبدّد الخشية من إمكان السقوط في فخّ الأدوار المألوفة، وتقدّم شخصية المدمنة المرفوضة برقيّ المبدع. خشينا من تكرارٍ اعتدناه كلما طرحت الدراما تيمة الإدمان، لكنّ نيللي كريم جعلت إعادة الطَرْح متعة رغم جهنّمية المشهد وقسوة العذابات.
النصّ لمريم نعوم، صاحبة التفصيل العميق، والإخراج هذه السنة لتامر محسن، بعدما تولّت كاملة أبو ذكرى تقديم الصور الناطقة. المسلسل رحلة معاناة شاقة وحبالٌ تمتدّ الى الأعناق فتخنقها. تعود نيللي كريم في دور مريم الى القاهرة آتية مع زوجها حاتم (ظافر العابدين) من الإمارات. كان الظنّ أنّ في استطاعة المرء طيّ الصفحة حين يشاء ذلك. تسعة أعوام مرّت على خسارة مريم الرجل الذي خفق له القلب، جراء المخدرات الزائدة ولعنات المجهول. يتّضح للذاكرة أنها لم تنسَ ولا تريد أن تفعل. تشبه عودة مريم الى الإدمان هشاشة المرء حين تشتدّ به الوحدة. يطلّ الماضي بتلسُّطه على النفس والجسد والعقل والقدرة. زيارة مريم قبر الحبيب الميت، تحيي في الأعماق حنيناً الى يوميات الشلّة والمغامرة المُكلِفة. حاتم خارج عالمها المضطرب القائم على الهدم في كلّ لحظة. تريده نقياً. ثم يكتشف أنّ لزوجته ماضياً تكدّس الغبار عليه ولا يزال يتوهّج. يعلم بعلاقاتها السابقة وبالحبيب الذي مات وبالإدمان الذي يكوي الجسد. يتألم لكنه يتفهّم. يمتلئ بالأسئلة والشكّ، لكنّه يعرف كيف يحتوي امرأة يحبّها، وكيف يجعلها لا تكرّر أنها نكرة. ذلك اختزالٌ أراد منه المسلسل إظهار قيمة الاحتضان في حياة المحتاج. نتكلّم على الحضن الدافئ حين يُبدي استعداداً لتخفيف المصاب. ظافر عابدين شخصية صادقة، ونيللي كريم تحمل على الإحساس بأنها ضحية (ليست مجرمة) والعالم بأسره يجلدها. المُشاهد لا يعدّ الجَلْدات بل يتلقّاها. لا تترك له كريم خياراً آخر. تجتذبه بروعة أدائها وحاجتها الى المخدّر، ووحدتها، وصفعاتها، وتأرجحها بين القوة والضعف وعدمية قرارتها.
عملٌ يتفادى الوعظ ويترك للمُشاهد الحُكم على الفظاعة. لا يتولّى دور المُصلح الاجتماعي ولا يقدّم نفسه على أنه الحلّ. يريد مسألتين: عَرْض العلّة وإظهار السبيل الى احتوائها. تنتهي فرضياته كلّها بنتيجة واحدة: الإدمان دمار. يبتعد المسلسل من إلقاء الخطاب على المنابر العالية. شخوصه يعيشون المعاناة، ولا يتسكّعون في الشوارع مجاهرين بها. ما يدفع مريم للعودة الى الإدمان ليس إغراء النشوة، بل الخيار الأسهل لمحو الذاكرة وذنب الحبّ القديم الذي انتهى على غفلة من غير أن تقوى على إنقاذه. يسمّونها بلغة أهل مصر "الوحشة". أن "يوحشها" الانتهاء على مهل والسير البطيء نحو الهاوية. وأن "يوحشها" رجلٌ مات وترك ذنب الفَقْد يدمّرها، فكلما هَوَت، تمسّكت بالمخدّر مستعيدةً لحظات كانت تمنحها القوة. شخصية مشبّعة بالترسّب النفسي والأوزار الثقيلة. يحوط بها النقيضان: الصديق الصالح مثل شريف (هاني عادل) وأصدقاء السوء الذين يكتبون نهايتها. خليطٌ من التشوّشات هي مريم، والنجاة باهظة.
ننتظر من المسلسل حلقاته المقبلة، فمريم حامل والإدمان يفتك بها. لا يُستَهان بالقضية ولا بكيفية طرحها. الكيفية تسبق الطرح هنا، والأنظار عليها. يبرز الاعتراف بالحاجة الى العلاج بأهمية الرحلة العلاجية نفسها، مما يفسّر قدوم مريم الى مركز التأهيل بإرادتها واستعدادها للصبر. يخلق السياق مناخاً علاجياً مطلوباً في حالات مماثلة، ويترك في المُشاهد وعياً لضرورة ألا تُداوى الجراح بجراحاتٍ أصعب. المسلسل مشغولٌ برقي، يدوس الوحول ولا يتلطّخ بها. عينا نيللي كريم تزيدان الحوار صراحة: "حاسة إنو ماليش لازمة". وكلّ ما فيها يزيد المشهدية وجعاً. يهزأ منها زوجها لارتدائها "بجامات الرجّالة"، قبل أن يعلم أنها لا تخفي بذلك جسداً مثقوباً، بل أوجاعاً.