هل تتحقق العدالة بالمساواة الكاملة بين الناس ؟
- اقتباس :
مقدمة: (طرح المشكلة):الإنسان بحكم طبيعته الإجتماعية والإنسانية لا يكتفي بذاته بل يحتاج إلى غيره أنه يتبادل معهم المشاعر والأفكار والأشياء من منطلق أنه كائن أخطائي وجدير بالبيان أن العدل هو أشرف القيم الأخلاقية غير أن تطبيقه في أرض الواقع إلى تناقض غير الآراء بين أطروحة التفاوت والمساواة وهنا يحق لنا طرح المشكلة من خلال التساؤل التالي: هل يا ترى العدالة الإجتماعية الحقة تبنى على مبدأ التفاوت أم المساواة؟؟
التحليل: (محاولة حل المشكلة):
عرض الأطروحة الأولى: يرى أنصار التفاوت بزعامة أفلاطون والكسيس كاربل أن العدالة الإجتماعية يكمن شرطها في إحترام التفاوت بين الناس وقصدوا ذلك التفاوت في التركيبة العضوية والقدرات العقلية والأدوار الإجتماعية وبيان ذلك أن الناس يختلفون بالولادة في قدراتهم ومواهبهم الجسمية والعقلية فمنهم الضعيف ومنهم القوي ومنهم الذكي ومنهم الغبي. فمن الظلم أن نبوئ الغبي أو الغير الكفء منصبا إداريا ممتازا يتوقف عليه نظام بعض الشؤون الإجتماعية أو غيرها وبالتالي منحه مقابل ذلك جراءات وإمتيازات عالية. تعود هذه الأطروحة إلى أفلاطون الذي رأى أن العدالة تتحدد بإعتبارها فضيلة تنضاف إلى فضائل ثلاث هي: العفة والشجاعة والحكمة. فالعدالة حسب هذا الأخير هي أن يؤدي كل فرد الوظيفة المناسبة لقواه العقلية والجسدية والنفسية وهي تتحقق على مستوى النفوس حيث يحدث إنسجام بين القوى الشهوائية والعقلية لدى الإنسان فالضامن الوحيد لتحقيق العدالة هو الدولة التي تملك سلطة القانون ولذلك قال في كتابه الجمهورية: "يتحقق العدل في المجتمع عندما تقوم كل طبقة بالأدوار المنوطة بها والمتناسبة مع مواهبها" وفي العصر الحديث نظر الجراح الفرنسي (ألكسيس كاريل) إلى العدالة الإجتماعية من منظور علمي حيث رأى أن النظام الطبيعي مبني على فكرة الطبقات البيولوجية وهي ضرورية لخلق توازن غذائي وتوازن بيئي والنظام الإجتماعي العادل هو الذي يحترم التفاوت قال في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): "في الأصل ولد الرقيق رقيقا والسادة سادة حقا واليوم يجب ألا يبقى الضعفاء صناعيا في مراكز الثروة والقوة... لا مفر من أن تصبح الطبقات الإجتماعية مرادفة للطبقات البيولوجية" وحجته في ذلك أن هذا النظام يسمح لأصحاب المواهب من الإرتقاء في السلم الإجتماعي سواء الذين يمتلكون القدرات البدنية أو العقلية ومن الأنظمة الإقتصادية الحديثة التي جعلت من التفاوت أساسا لتحقيق العدالة الظام الرأسمالي لأن التفاوت يكرس الحرية ويشجع المنافسة ويسمح بفتح المبادرات الفردية ويوسع مجال الإبداع يقول آدم سميث "دع الطبيعة تعمل ما تشاء" وفي تفسير ذلك قال في كتابه(بحوث في طبيعة وأسباب رفاهية الأمم): "المصلحة العامة متضمنة في المصلحة الخاصة والتنافس شرط العدالة الإجتماعية" إذ لا يجب مساواة الفرد العبقري المبدع بالفرد العادي الساذج. ولا العامل المجد البارع بالعامل الكسول الخامل, بل لا بد من الإعتراف بهذا التفاوت وتشجيعه لأن ذلك يبعث على الجهد والعمل.
النقد: من حيث الشكل نلاحظ أن هذه الأطروحة ركزت على مبدأ التفاوت وتجاهلت مبدأ المساواة ومن حيث المضمون نرد عليهم بأن الواقع يثبت أن الناس يختلفون في قدراتهم العقلية والجسمية لكن هذا ليس مبررا يجعل التفاوت مبدأ ضروريا لتحقيق العدالة لأنه يول الطبقية والإستغلال والتمييز العنصري وكل ذلك يتنافى مع روح العدالة ومع القيم الإنسانية والأخلاقية.
عرض الأطروحة الثانية: على النقيض من الأطروحة الأولى يرى بعض الفلاسفة والعلماء أن العدالة الإجتماعية الحقة يجب أن تتأسس على المساواة, على إعتبار أن العدالة الإجتماعية تعني المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات وأمام القانون يدافع عن هذه الأطروحة فلاسفة القانون الطبيعي وفلاسفة العقد الإجتماعي وكذا أنصارالمذهب الإشتراكي وما يؤكد ذلك أن الأفراد حسب فلاسفة القانون الطبيعي كانوا يعيشون في حالة الفطرة وكانوا يتمتعون بمساواة تامة وكاملة فيما بينهم, ومارسوا حقوقهم الطبيعية على قدم المساواة لذلك فالأفراد سواسية وعليه فالعدالة يقتضي المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق والواجبات بحكم طبيعتها المشتركة ومادام الناس متساوون في كل شيئ فما على العدالة إلا أن تحترم هذه المساواة لذلك قال الخطيب الروماني شيشرون: "الناس سواسية لا يوجد شيئ أشبه بشيئ من الإنسان بالإنسان لنا جميعا عقل ولنا حواس وإن إختلفنا في العلم فنحن متساوون في القدرة على التعلم" أما فلاسفة العقد الإجتماعي فيؤكدون ان إنتقال الإنسان من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع السياسي تم بناء على تعاقد وبما أن الأفراد في المجتمع الطبيعي كانوا يتمتعون بمساواة تامة وكاملة. لم يكونوا ليقبلوا التعاقد ما لم يعتبرهم المتعاقدون معهم مساوين لهم. فالمساواة شرط قيام العقد وبالتالي فالعقد قائم على عدالة أساسها المساواة بين الجميع في الحقوق والوجبات. وهذه الأفكار تجسدت عند أصحاب المذهب الإشتراكي من خلال التركيز على فكرة (المساواة الإجتماعية) التي هي أساس العدالة الإجتماعية وهذا ما أكد عليه (فلاديمير لينين) بقوله: "الشيوعية نظام إجتماعي لا طبقي له شكل واحد الملكية العامة لوسائل الإنتاج والمساواة الإجتماعية الكاملة بين أفراد المجتمع" ومن الذين رفضوا التفاوت ودافعوا عن المساواة الفيلسوف (برودون) الذي رأى أن مصدر الحقوق هو الجهد وليس التفاوت الوراثي فقال: "هناك علة ضرورية لا مفر منها في التفاوت الجسمي والعقلي بين الناس فلا يمكن للمجتمع ولا للضمير الحد منها لكن من اين لهذا التفاوت المحتوم أن يتحول إلى عنوان النبل بالنسبة للبعض والدناءة للبعض الآخر".
النقد:إن كانت هذه الأطروحة تبدو للوهلة الأولى وكأنها مستساغة ومقبولة إلا أنها لا تصمد أمام النقد وتعارض نفسها لتنهار بسرعة وهي غير قادرة على الوقوف والمحاجة فمن حيث الشكل نرد عليهم بأن المساواة المطلقة وهم ولا وجود لها في أرض الواقع ومن حيث المضمون نرد عليهم بالقول صحيح إن المساواة تقضي على الطبقية والاستغلال. إلا أنها في نفس الوقت تقتل المبادرات الفردية وتقضي على روح الإبداع وتشجع الناس على الخمول والكسل حيث تبث فيهم روح الإنكال ولعل هذا هو السبب الذي سارع في إنهيار الأنظمة الإشتراكية.
التركيب: (الفصل في المشكلة):يتحدد مفهوم العدل لغة على أنه الإنصاف وعدم الظلم أما في الاصطلاح الفلسفي فالعدل له مفهوم عميق أنه "مجموهة من القواعد التي تحدد الحقوق والواجبات" وإذا كان من السهل تعرف العدل والتبشيرية والمطالبة بتطبيقه فإنه من الصعب تحديد الكيفية والشروط اللازمة لتحقيقه وهذه مشكلة للفصل فيها نقول العدالة الإجتماعية الحقة معادلة طرفها الأول التفاوت وطرفها الثاني المساواة حسب مجالات الحياة وفي مجال الحقوق أمام المحاتم لا بد من المساواة وفي مجال القدرات والحاجات الإجتماعية لا بد من التفاوت ولن يتحقق هذا وذاك إلا في ظل إرتباط العدل بالأخلاق وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس" هذا الحل التوفيقي تأخذ به أغلب المجتمعات الراقية في سلم الثقافة والحضارة.
الخاتمة: (حل المشكلة):صفوت القول وكتلخيص عام نقول أن مشكلة العدل بين التفاوت والمساواة تدرج ضمن محور الحقوق والواجبات والعدل ولها علاقة بمجال أوسع ألا وهو الأخلاق النسبية والأخلاق الموضوعية وقد إتضح لنا أن أطروحة التفاوت شرطت إحترام الفرقات الفردية بين الناس على المستوى العضوي والعقلي والإجتماعي كما أقر ذلك أفلاطون ونيتشه والإتجاه المعاكس قضت أطروحة المساواة هذا الشرط ودافعت عن المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات أمام القانون