جــــبـــــاركانت قاعة الانتظار تعج بالبؤساء مثلي، جمعنا المرض و الأنين و ضيق ذات اليد في أروقة هذا المشفى الحكومي الذي تعفنت أركانه و استحال لون المعاطف البيضاء بنيا وسخا تنفر منه الروح، السكرتيرة العابسة في معطفها شبه الأبيض تتنقل بيننا و هي تحمل قلما و مذكرة تحط فيها ملاحظاتها و أبصارنا متعلقة بها و بقلمها الذي يتحرك في أنفة على الورق الأبيض كأنما يخط تعويذة الخلاص للمعذبين، عندما يشتد الوجع يغدو كل من يرتدي الأبيض هنا أملا مضيئا تتعلق به العيون و القلوب حتى لو كانت مجرد سكرتيرة مهمتها تنظيم المواعيد و دس الأوراق المالية في جيبها الشره في غفلة من العيون الحزينة و كل علاقتها بالطب هو بضع كلمات مستوردة تحفظها بالسمع من الطبيب الغائب دائما و أبدا. اختلطت أصوات السعال بأصوات الأنين بصوت بكاء رضيع يتشبث بصدر أمه الضامر كما يتشبث الغريق بقشة، كان كل منا ينتظر اللحظة التي سيسمع فيها اسمه ليلج قاعة الكشف، انشغلت بالنظر إلى الجرح المضمد الذي كاد شطر يدي إلى نصفين لولا رحمة ربي و في غمرة شرودي وصلني صوت عذب كأنما ينبع من قلب الفردوس، كان صوتا مؤنثا يلاعب الرضيع في رقة و عذوبة أذابتا فؤادي، تظاهرت بالنظر إلى النافذة لأختلس النظر إلى مصدر هذا الصوت الخرافي، ملاك في بداية العقد الثالث من عمره، كانت تجلس بمحاذاة الأم التي تضم الصغير و تحاول بحركات طفولية إضحاكه، كيف لم أفطن إلى وجودها الملائكي؟ ماذا تراه أتى بها إلى هنا؟ و كيف يستبيح المرض جسدا بديعا كهذا الذي حباها الله به؟ كيف يجرؤ الوجع على انتهاك حرمة هذا الجمال اللامتناهي؟
كنت أتفحصها في جرأة لم أعهدها في نفسي، تململت في حرج كأنما أحست بعيني الشاخصين إليها و فيها، رفعت إلي بصرها، فانتابني شعور غريب و استحال البؤس و الأنين و المرض أملا و موسيقى و غناء، كان لجمالها جبروت مهول، ابتسمت و أنا اسمع في ذهني أغنية "جبار" لعبد الحليم حافظ، هربت من اللحن الذي يرن في روحي بإصرار غريب لكنه ظل يطاردني دونما هوادة.
كانت منشغلة في حديث خافت مع والدة الرضيع بينما انشغلت انا بالتهام كل تفاصيلها، مر زمن طويل منذ ان انجذبت الى أنثى بهذه الطريقة، لها يدان صغيرتان، تنهدت بعمق و انا أفطن انه لا خاتم هنالك و تسللت ابتسامة الى شفاهي و انا أتخيل يديها الصغيرتين تذوبان بين يدي، انتبهت الى تعابير وجهها و هي تتحول من الابتسامة الى عبوس خفيف و تعاطف رقيق مع والدة الرضيع التي كانت تحكي لها تفاصيل مرض الصغير، ازداد تعاطف الفتاة مع الام البائسة فتسللت يدها بخفة الى حقيبتها الجلدية الأنيقة لتدس بعض الأوراق المالية بين يدي الام و هي تهمس "هذا كل ما املكه" ظلت الام متحجرة غير قادرة لا على الشكر و لا على الرفض، ابتسمت الفتاة في حزن و هي تهمس لها بصوت وصل الى مسامعي خافتا متقطعا "أسرعي بالذهاب الى مشفى خاص، الاطفال ليسوا مثلنا، لا طاقة لهم لهم لاحتمال الألم و حبال الانتظار في المشفى الحكومي طويلة جداً "
هزت الام راسها ممتنة و هي تضم أصابعها على الاوراق المالية و همت بالوقوف فسارعت اليها و عيناي لا تفارقان الملاك الرقيق، لم اجد ما أقوله، احسست بانني اريد ان اكون بطلا امامها، اريد ان اصنع لنفسي هالة مشعة تجذبها الي كما يجذب النور الفراشات، وضعت يدي في جيبي بكبرياء و افرغته من كل ما أملكه، كان مبلغا محترما كنت قد جهزته لتسديد بعض الفواتير المتأخرة، و كان كفيلا بتوفير علاج سريع للصبي الذي لا يكف عن العواء، امتلأت عيون الام بدموع الامتنان و غادرت المكان مسرعة عندما سمعت السكرتيرة تنادي باسمي، توجهت الى قاعة الكشف و انا احس بنظراتها تشيعني الى القاعة في افتتان، كنت في سري شاكرا هذه الصدفة التي جعلتني ادخل قبلها و اضمن انني سأجدها في قاعة الانتظار، أحسست بالسعادة العامرة و الطبيب يخبرني بأنني لن افك غرز الجرح اليوم، خرجت الى قاعة الانتظار و شغفي بها يسبقني لكنني لاحظت بخيبة كبيرة انها ليست في القاعة، غلف روحي غلاف سميك من البؤس و اتجهت نحو الباب و قد تهدلت إرادتي، التفتت الى النافذة فلمحتها امام مبنى المستوصف بفستانها الزهري تحجرت البسمة على شفاهي و انا ارى هذا الذي يحدث، كانت برفقة الام و رضيعها و هما تتقاسمان الغنيمة التي غادرت جيبي طوعا، رفعت راسها الى النافذة فلمحتني، لم استطع تبين التعبير الذي يطفو على ملامحها لكنني أحسست بابتسامتها تصفعني بقسوة على قفاي.