بين الفصحى والعامّيّة
من خصائص الألسنة الطبيعيّة أنّ فيها مستويين لغويّين على الأقلّ مستوى يسمّيه البعض شفويّا ويسمّيه آخرون دارجا... ومستوى يسمّيه البعض مكتوبا ويسمّيه آخرون فصيحا... ولكنّ المهمّ في هذا السياق هو أنّ المستويين طبيعيّان ولا يعبّران عن شذوذ أو غرابة. وهذا مفهوم في نطاق ثنائيّة اللسان والكلام التي وضّحها دي سوسير في دروسه. ذلك أنّ اللسان هو النظام المجرّد القائم على مبدإ الاصطلاح بين أفراد الجماعة اللغويّة. أمّا الكلام فهو التحيين/ الإنجاز لذلك النظام. والكلام إذن محكوم بمبدإ صوتيّ فيزيائيّ هو المجهود الأدنى.
وتنتمي اللهجات أو العامّيّات إلى الكلام لأنّها أشكال من الإنجاز للسان الموحّد بين أفراد الجماعة اللغويّة. ويفرّع اللسانيّون الاجتماعيّون المستوى اللهجيّ فروعا منها اللُّهيجة واللكنة... غير أنّهم لم يقولوا أبدا إنّ اللهجة (العامّيّة) لسان آخر (لغة أخرى). ومن ثمّ فلا معنى للقول في الاكتساب اللغويّ إنّ الفصحى أو العامّيّة هي اللغة الأمّ (لغة الأمّ). ذلك أنّ مبحث الاكتساب يُعنى بظهور الكلام أو بظهور اللسان مبلورا في "كلام" أي في إنجاز أي في لهجة (أو لهيجة أو لكنة). ولهذا فالقول إنّ الإنسان يكتسب اللهجة قبل تعلّم الفصحى معناه أنّه يكتسب الكلام قبل اللسان أو الاستعمال قبل النظام. وهذا معمّم في جميع الألسنة الطبيعيّة. فلإنسان يكتسب لغته الأمّ اكتسابا طبيعيّا في مستواها اّلأوّل ويتعلّمها تعلّما مدرسيّا في مستواها الثاني.
إنّ القول إنّ اللغة الأمّ هي العامّيّة قول فيه خلط مفاهيمي لأنّ العامّيّة مستوى لغويّ من لغة أو لسان مّا. فأن نقول إنّ اللغة الأمّ مثلا هي العربيّة معناه أنّنا نعدّ اللهجات العربيّة من العربيّة. فهي لهجات وهي عربيّة. فاللغة الأمّ إذن هي اللغة وليست مستوى لغويّا. أمّا الطفل فيكتسب تلك اللغة كما تُنطق أو تُنجز حوله في محيطه. فمن يستعمل "العربيّة" مقابلا "للعامّيّة" يخطئ لأنّه يرفع الفرع إلى الأصل أو ينزل الأصل إلى الفرع أو يساوي اللسان الواحد بمستوى لغويّ من مستوياته. وهو من حيث لا يعلم يقدّم لمن يريد إحلال اللهجات محلّ الفصحى مبرّرا قويّا داعما له.
هذا هو الأصل. أمّا أنّ بين المستويين في العربيّة تباعدا لافتا في بعض المناطق فهذا لا يعود تفسيره إلى اللسانيّات وحدها. بل إنّه حديث آخر في مجالات كثيرة منها السياسيّ ومنها التاريخيّ... ولعلّ من القضايا الأساسيّة التي تشغل – ولا بدّ أن تشغل – المعنيّين بتعليم العربيّة ضرورة التفكير في كيفيّة التعامل مع ثنائيّة العامّيّ والفصيح أو الشفويّ والمكتوب في المدرسة.