التقبيل... تاريخاً وآثاراً"
- اقتباس :
التقبيل ...
تاريخًا... وآثارًا
دراسة أعدّها
الدكتور أحمد الريماوي
للجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب "واتا"
نظراً لأهمية هذا الموضوع، فقد رأيت أن لاتكون استجابتي للكتابة عنه مرهونة برد الفعل السريع، أو مرتبطة بالخواطر، أوبما يمرّ على شريط الذاكرة، بل قمت بتحديد بعض النقاط المتعلقة بموضوع التقبيل بشكل عام، كتعريفه، وأنواعه، ومعانيه، وتاريخه في الأسطورة، وعند الرسامين، وفي الشعر العربي، وفي الأفلام، وآثارالقبلات بعامة قبل الخوض بأثرها على نهضة الأمة العربية بخاصة.
التعريف
التقبيل في اللغة (معجميّاً): مصدرقَبَّلَ، والاسم منه القُبلة، والقُبلة بالضم اللثْمّة، والقِبلة بالكسر الجِهة، والقَبلة بالفتح وتحريك اللام الخَبّاز، ويبدو أن القبلة بالضم والقبلة بالكسر لفظان مشتركان بالمعنى العام للإقبال على الشيء، واللثمة مشتقة من اللثام، وهو موضع النِّقاب على الشفتين، وليس في لغتنا العربية بالمترادفات سوى هذين اللفظين: القبلة بالضم، واللثمة بالفتح، فاضطر العرب إلى استخدام "البوسة"- وهي كلمة فارسية معرّبة- على سبيل الإغناء، وشاعت في العاميات العربية، وظل أهل الفصاحة مع القبلة واللثمة، متجاهلين ما أثبتته المعجميات العربية في مادة "بَوْس" وجواز استخدام المُعرَّب. والكلمات المُعرّبة عن الفارسية واردة في القرآن الكريم كالاستبرق والزبرجد، وواردة في الحديث الشريف والشعر الجاهلي، ولكن "البَوْس" ليس بينها.
والقُبلة: هي ملامسة الشفتين للشفتين، أو لأي منطقة أخرى من الوجه، كالخَدّ والجبين والعين والأنف والذقن والشوارب، وقد تكون القبلة لليد والقدم، وقد تكون لبعض كائنات الطبيعة، كالوردة أو أي حيوان أليف، وقد تكون لأشياء مصنوعة، كالهدية تُهدى، فيقبلها المُهدى إليه على سبيل الشكر، وقد تكون قبلة في الهواء تطيّرها اليد لمن هو بعيد، أو قبلة في الهواء يُسمع صوتها في الأذنين كأنه الهمس، حين تلتقي النساء في استقبال النسوان حتى لا تحمِّر إحداهن الأخرى بصباغ شفتيها، وقد تكون القبلة ملامسة أنف لأنف، أو فم لكتف، أو فم لطرف ثوب الحاكم. وبعض الناس في الأحياء الشعبية يحمد الله بتقبيل يده وجهاً وقفا، مع قوله:"الحمد لله، مستورة"!.
القُبلة في تاريخ الأسطورة
تروي بعض الأساطير أن حواء حين كانت وآدم في الجنة، استلقت تحت شجرة (وربما كانت الشجرة المحرّمة) ونامت، فحطت على شفتيها نحلة كما تحط على زهرة، لِ"تمتص شهد الرّضاب"، كما عبّر الشاعر الفارسي عمر الخيام، فأفاقت حواء، وابتسمت ابتسامة رقيقة لتتيح للنحلة المزيد من المص، وكان آدم يراقبها، فغار من النحلة، وكشّها، وانحنى على حواء، وحط شفتيه على شفتيها كما فعلت النحلة، فارتاحت حواء لهذه الملامسة الشفاهية، التي كانت القبلة البريئة الأولى في تاريخ البشرية.
واعتقد الإنسان القديم أن هواء الزَّفير فيه قوة سحرية، ويحوي الروح. وفي الاحتفالات الدينية البدائية كان الناس يتبادلون ما يشبه القبل لاستنشاق زفير الآخر، كأنما هم يتقوّون بأرواح بعضهم بعضاً. والتحية عند سكان الأسكيمو تكون بضغط أنف على أنف مع الشهيق، واستنشاق زفير الآخر، وأقدر الناس على التقبيل هم العازفون في آلات النفخ، بسبب قوة عضلات الشفتين عندهم. وعند بعض القبائل يتم استخدام كلمة "شُمَّني" بدلاً من "قَبَِّلني"، وهذا ينسجم مع ما قيل عن الاستنشاق، ويؤكد أن الشَّم هو بداية التقبيل، ولا تقبيل بلا شمٍّ.
جوردون جالوب Gordon Galob ... وأصل نشوء القبلة...
والتباين في موقف الرجل والمرأة من التقبيل
قال الباحث جوردون جالوب Gordon Galob:" أن التقبيل تطوّر على مدار الزمن ليصبح جزءاً مهماً من عملية التواصل الحميمي بين الجنسين، وهناك سبب تاريخي دفع إلى هذا التباين في موقف الرجل والمرأة من التقبيل". فأصل نشوء القبلة، كما يقول الباحث جالوب:"كان بين الأم والابن. ففي الزمن الغابرحين كان الإنسان يعيش الحياة البدائية، ويفتقد إلى أبسط الأدوات المعينة على الحياة، كانت الأم تطحن الطعام في فمها وتنقله إلى فم طفلها، وهو ما كان يسمح بشعور القبلة الأولى بما فيه لمس اللسان، وكان الدماغ الإنساني يقوم بتطوير نفسه وفقاً للاحتياج، سواء من خلال تغيير تكوين الجسم أو الإحساس والمشاعر، وكون هذا التغيير مستمر وعبر أجيال، فإن التباين وقع بين تطور الدماغ لدى كل من الرجل والمرأة، ففيما كانت القبلة ترمز لدى المرأة إلى سيادتها وإلى الحالة العاطفية الخالصة والنقية، كانت ترمز لدى الرجل إلى انتقاص طفولته، وتبعيّته في الحياة، وعجزه عن البقاء وحيداً. مما تبعه إلى إحداث تغيّر في تكوينه الدماغي جعله يعكف عن القبلة. فإن الإنسان عاش لملايين السنين كذلك، ومن هنا كان تبادل القبل، ولمس اللسان، هو من صفات الطفولة التي يُحرج الرجل منها لأنها دلالة نقص، ليس فقط للشعور الذاتي، ولكن أيضاً من أجل البقاء، فإن أحسّ باقي أعضاء القبيلة بأنه ضعف أو ميل إلى العاطفة، فسوف يتحول إلى هدف سهل لهم".
أيضاً يمتاز الإنسان عند الباحث جالوب عن باقي المخلوقات في جزئية الدموع، فهي في الإنسان لها غرض مشاعري، بالإضافة إلى دورها البيولوجي البحت لدى باقي المخلوقات، وهذا بدوره، ناتج عن تطور المنطقة العاطفية في الدماغ، والتي أساساً تطورت بسبب القبلة بين الأم والابن، ومن هنا كان ميل الرجل إلى العكوف عن البكاء مع تقدم العمر، كونه من صفات الطفولة، ومن هنا كانت المرأة ميالة للبكاء، وللسبب نفسه الذي جعلها أكثر قدرة على الإحساس بالقبلة. فهي تاريخيا لم تفطم، لا عن القبلة، ولا كانت بحاجة إلى أن تفطم عن البكاء، ولذا ظلت المناطق من دماغها نشطة.
الأبحاث السريرية والمسح المغناطيسي للدماغ، تؤكد وجود إثنى عشر نقطة فاعلة عاطفياً في دماغ المرأة، فيما يقابلها نقطتين فقط لدى الرجل، ولكن تلك النقطتين، أكثر عمقاً من المرأة، وتصدر إشارات أوضح وأقوى، وهو ما يفسر به العلماء تعرض الرجل إلى أمراض محدَّدة أكثر من المرأة، كأمراض القلب والسكري وباقي الأمراض، التي تكون ناتجة عن حالة عاطفية حادة. فالرجل يتأثر بشدة، ولكن بصمت، والمرأة تتأثر بشدة بدورها، ولكنها تنفِّس عن احتقانها المشاعري بالدموع كأضعف الإيمان.
النظرية الفرويدية
لاحظ الإنسان القديم أن تناول الملح له أثر في تبريد الجسم، واكتشف أن التقبيل يزوِّده بالملح من رضاب الشريك، فيبرد جسمه الحار ويرتاح، وأحدنا إذا برد، ينفخ في يديه ليستدفيء بنفسه، ثم يفرك يديه بسرعة استجلاباً للدم إليهما.
منشأ القبلة عند فرويد مصُّ حَلَمة ثدي الأم طلباً للغذاء والحياة عند الوليد. وحين يكبر يحنُّ المرء إلى هذا الماضي، ويحوِّل المصَّ إلى تقبيل الآخر.
قالوا عن القبلة:
لايتسع البحث لذكر ما قال المفكرون والقادة والعلماء، بل وحتى العامة عن القبلة، وسأكتفي بذكر ما يلي:-
* تقول الأمثال الفرنسية: "القبلة هي الطريقة الوحيدة لتمنع فم الزوجة من الثرثرة والكلام، وهي تقنع أكثر من الجدل".
* وقديماً قال نابليون:"أعرف نساء أسعدتهن قبلة، لكني أعرف نساء أكثر، شقين طول الحياة بسبب قبلة".
* وقد احتار الطاغية نيرون، فتمنى لو أن لجميع النساء ثغراً واحداً لقبله واستراح".
* ويقول كلارك جييل:"إن اللذة التي يحسها عندما يقبل امرأة، هي اللذة نفسها التي يحسها وهو يصفعها".
معاني القُبْلَة
تختلف معاني القبلة بحسب موضعها:
* قبلة الجبين احترام وطهارة،وعنوان للسمو.
* قبلة الوجنتين والخَدود رمز للحنان والصداقة والمودَّة.
* قبلة الأنف تقدير وتبجيل.
* قبلة الأذن وشوشة حب.
* قبلة العين فيها احترام وعشق راق وحنان، وكذا قبلة الحاجب.
* قبلة الشوارب "شعبياً" صفْح.
* قبلة الفم حب ورغبة.
* قبلة العُنق دغدغة.
* قبلة اليد احترام وولاء.
* قبلة القدم تذلّل وخضوع.
أقسام التقبيل في الأسلام
ذكر بعض الفقهاء أن التقبيل على خمسة أوجه:
* قُبلة المودّة للولد على الخَد.
* قبلة الرحمة لوالديه على الرأس.
* قُبلة الشفقة لأخيه على الجبهة.
* قبلة الشهوة للزوجة أو الأمة على الفم.
* قُبلة التحية للمؤمنين على اليد.
* وزاد بعضهم قبلة الديانة للحجر الأسود.
أحكام التقبيل في الإسلام
أولاً: التقبيل المشروع:
أ- تقبيل الحجر الأسود: يسن تقبيل الحجر الأسود للحاج والمعتمر في حالة الطواف لمن يقدر، لما روى ابن عمر "أن عمر رضي الله عنه قبّل الحجر ثم قال: والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبلتك"، فإن عجز عن التقبيل اقتصر على الاستلام باليد ثم قبّلها، وإن عجز عن الاستلام باليد اكتفى بالإشارة عن بُعد.
ب- تقبيل الركن اليماني للكعبة: رُوي عن ابن عمر قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طواف". ولا يقبله، لكن الشافعية قالوا:يستلمه باليد ويقبل اليد بعد استلامه.
ثانياً: التقبيل الممنوع:
* عدم جواز لمس وتقبيل المرأة الأجنبية ولو للخطبة.
* عدم جواز تقبيل الأمرد إذا كان صبيح الوجه، وإذا لم يكن صبيح الوجه فحكمه حكم الرجال في جواز تقبيله للوداع والشفقة.
* لا يجوز للرجل تقبيل فم الرجل أو يده أو شيء منه، وكذا تقبيل المرأة للمرأة، والمعانقة ومماسة الأبدان، ونحوها، وذلك كله إذا كان على وجه الشهوة، وهذا بلا خلاف بين الفقهاء، لما رُوي "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: نهى عن المكامعة وهي: المعانقة، وعن المعاكمة وهي التقبيل"
* عدم جواز تقبيل يد الظالم، وقالوا إنه معصية إلا أن يكون عند خوف.
* تحريم تقبيل الأرض بين يدي العلماء والعظماء.
* عدم جواز تقبيل أحد الزوجين الآخر في حالة الاعتكاف إن كان بشهوة، لقوله تعالى:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد".
ثالثاً: التقبيل المباح:
أ- تقبيل المبرّة والإكرام، وتقبيل المودّة والشفقة:
يجوز تقبيل يد العالم الورِع والسلطان العادل، وتقبيل يد الوالدين، والمعلِّم، وكل من يستحق التكريم والاكرام، كما يجوز تقبيل الرأس والجبهة وبين العينين. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق جعفراً حين قدم من الحبشة وقبّل بين عينيه"، وروي "عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان في سريَّة من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر قصة، قال: فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم، فقبّلنا يده". قال بن بطّال: أنكر مالك تقبيل اليد وأنكر ما روي فيه.
قال الأبهريّ: وإنما كرهه مالك إذا كان على وجه التعظيم والتّكبّر. وأما إذا كان على وجه القُرْبة إلى الله، لدينه أو لعلمه أو لشرفه، فإن ذلك جائز.
كذلك يجوز بل يُسَن تقبيل الولد للمودّة على الرأس والجبهة والخد، لحديث أبي هريرة قال:"قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم حسين بن علي، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً، فقال عليه الصلاة والسلام: من لا يرحم لا يُرحم".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:"جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبّلون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟". وعن عائشة رضي الله عنها قالت:"ما رأيت أحداً أشبه سمتاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة ابنته، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها يقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت له فتقبّله وتجلسه في مجلسها".
من خلال قراءتنا الهادئة لأحكام التقبيل في الإسلام، بدا واضحاً أن فلسفة التحليل والتحريم في الإسلام مبنية في المقام الأول على الزوجية أو الأخوة أو البنوّة.
آثار التقبيل في الإسلام
يحرّم الإسلام بشكل قاطع القبلة بين الجنسين في غير الزوجية أو الأخوة أو البنوّة، ويوصي الإسلام بالقبلة بين الزوجين، فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقعَنّ أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة، وليكن بينهما رسول، قيل: ما الرسول يا رسول الله؟ قال: القبلة والكلام".
أثر التقبيل في الوضوء
روي عن عائشة رضي الله عنها قالت:"إن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضّأ"، والمشهور من مذهب أحمد أنه يجب الوضوء على من قبّل لشهوة، ولا يجب على من قبّل لرحمة، وإذا كان التقبيل لوداع عند فراق أو لرحمة، كتقبيل المريض للشفقة فلا نقض.
أثر التقبيل في الصلاة:
التقبيل مبطل للصلاة عند من يقول بنقض الوضوء به، لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة عند عامة الفقهاء، فإذا انتقض الوضوء بطلت الصلاة.
كذلك تفسد الصلاة بالتقبيل عند الحنفية الذين ذهبوا إلى عدم نقض الوضوء به، لكنهم صرحوا بأنه لو قبلت الزوجة زوجها وهو في الصلاة ولم يشتهها لا تفسد صلاته.
أثر التقبيل على الصيام:
يُكره للصائم تقبيل الزوجة إن لم يأمن على نفسه وقوع مفسد، لما روي عن عبد الله بن عمر قال:"كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله - أقبّل وأنا صائم؟ فقال: لا. فجاء شيخ فقال: أقبّل وأنا صائم؟، فقال: نعم، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض؟ إنّ الشيخ يملك نفسه".
أثر التقبيل في الحج:
يحرّم على المحرِم اللمس والتقبيل بشهوة، ويجب على من فعل شيئاً من ذلك الدم، أما القبلة بغير شهوة فإن كانت لوداع أو لرحمة أو يقصد تحية القادم من السفر فلا تفسد الحج، ولا فدية فيها بغير خلاف بين الفقهاء.
أثر التقبيل في حرمة المصاهرة:
إذا لم يكن التقبيل بشهوة لا يؤثر في حرمة المصاهرة، وهذا متفق عليه، إلا إذا كانت القبلة على الفم، فخالف في ذلك الحنفية، وألحق بعضهم الخد بالفم.
القبلة في الدين المسيحي
ظهر في العصور الوسطى ما يسمى ب"القبلة المسيحية Christian Kiss"، وهي من طقوس الكنيسة. وقد جاء في رسالة القديس بولس إلى أهل روما:"ليسلّم بعضكم على بعض بقُبلةٍ مقدَّسة". واتبع الناس هذا التوجيه الديني الإنساني، وانتشرت هذه القبلة بين الرجال والنساء على أنها قبلة مقدسة. واضطرت بعض الدول أن تضع قانوناً للسيطرة على التقبيل المنتشر:
ففي فرنسا كان أحد القوانين ينص على أن المرأة تكون زانية إذا قبّلت رجلاً غير زوجها!
وفي إيطاليا نص أحد القوانين على أن الرجل الذي يقبل امرأة في العلن يجبر على الزواج منها!
وقد أوجدت الكنيسة بعد ذلك "قُبلة السلام"، وهي قبلة الكاهن للمرضى التي تمنح السلام للمريض. لكن هذه القبلة اختفت في عصر النهضة.
والتقبيل عند اليهود والمسيحيين قديم، ولا أحد ينسى قبلة يهوذا الأسخريوطي للمسيح ليدل عليه الرومان حتى يقبضوا عليه ويصلبوه، ويهوذا هذا - وهو أحد حواريي المسيح- ندم على فعلته وانتحر.
وفي هذا العصر أصبح التقبيل يمارس في الغرب بين الجنسين علناً في كثير من المناسبات، كعيد رأس السنة الميلادية في منتصف الليل، وفي أعياد الميلاد العادية، وفي الوداع والاستقبال لزائر أو مسافر. وأحياناً يتم التقبيل بلا مناسبة: على الشاطيء الرملي في أثناء السباحة، وعلى مقعد حديقة عامة، وفي السيارة، وفي المصعد وفي المطاعم والمدن الترفيهية، فالأمكنة المكشوفة والمغلقة كلها صارت صالحة للتقبيل، والناس يمرون بالعشاق المتعانقين بلا توقف أو اكتراث!.
القبلة في البوذية
في البوذية يقبل الراهب الأرض في أثناء حجّه النهاني ثلاثين ألف مرة خلال مشيه ستة أميال.
القبلة في التقاليد والأوهام الشعبية
- اليابان: لم يكن اليابانيون يمارسون التقبيل في حياتهم اليومية، إلى أن اختلطوا بالحضارة الغربية. فتعلموا كيف يقبلون.
- الصين: كان الصينيون يعدون التقبيل عملاً منافياً للحشمة والأخلاق، سواء كان في السر أو في العلن. ثم تغيرت نظرتهم إلى التقبيل بعد أن رأوا أن الغربيين يدعون إلى ممارسة التقبيل، لما فيه من فوائد جنسية واجتماعية.
- إندونيسيا: القبلة عند الإندونيسيين مقتصرة على تقبيل الخد فقط.
- الهند: الهنود هم الذين جعلوا للقبلة معنى رومانسيا. وكتاب الحب عندهم (كاما سوترا Kama Sutra) هو رسالة تضمّنت قواعد الوصول إلى المتعة الروحية والجسدية. والقبلة ركن أساسي في الوصول إلى المتعتين، وتسمى القبلة عندهم (Chummi).
- مصر القديمة: رسم الفراعنة القبلات على جدران معابدهم، وكانت الملكة كليوباترا تكافيء جنودها بتقبيلهم، فالقبلة سلوك يعبّر عن الترحيب أو هي سلوك عاطفي جنسي يجيش بالعواطف. وتشير الأوهام الشعبية في مصر مثلاً، إلى أن بَوْس العين نذير فراق. وقد عبّر عن ذلك محمد عبد الوهاب في أغنيته الخفيفة في فلم "ممنوع الحب"، (1949)، حين غنى:
بلاش تبوسني في عينيَّ * * * دي البوسة في العين تفرّق
- روما القديمة: كانت القبلة في روما القديمة ظاهرة اجتماعية شاعت بين الناس في الأسرة الواحدة
وبين الاصدقاء وفي الأسواق على أنها تحية. وتحولت في عهد الامبراطورية الرومانية إلى تعبير رومانسي، بدءاً من القبلة الزوجية التي كانت تتم في المذبح، وبها يبدأ الزواج، وهي تعبّر عن تبادل "نفس الحياة" للوصول إلى الاتحاد الروحي. وهناك قوانين بحثت في أمر القبلة بين الخطيبين. وعند الرومان ثلاث كلمات للقبلة (Oscula): وهي قبلة الصداقة، و(Basio)، تلفظ "باتشو"، وهي قبلة الحب، وتشبه كلمة بوسة الفارسية المعرّبة، أما (Suavia) عند الرومان فتعني القبلة الشهوانية.
- أوروبا: كان التقبيل في أوروبا إبان العصور الوسطى مستخدماً، ولكن في حذر، وفي الخفاء معظمه. وكان موضع القبلة يحدِّد مكانة المقبِّل والمقبَّل:
فالقبلة على الخد أو الفم تكون بين المتماثلين في المرتبة الاجتماعية، والقبلة على اليد، ثم على الركبة، ثم على الأرض، تعني التفاوت في المرتبة الاجتماعية بالترتيب نحو الأدني، "ومن هنا جاء قولهم:" قبّل الأرض تحت قدمي السلطان".
- فرنسا: في العصور الوسطى كان التقبيل ذا صفة اجتماعية. وكان الملك لويس الثالث عشر يقبل كل امرأة في نورماندي بحجة منحها البركة الملكية!، وقد اشتهرت "القبلة الفرنسية French Kiss" بعد ذلك، وهي قبلة اللسان أو "قبلة الروح". ومن المعلوم أن العرب كانوا يمارسون هذا النوع من التتقبيل منذ العصر الجاهلي، من خلال ما كان يعرف ب"الاستبضاع"، حيث يقدِّم الزوج زوجته إلى أقوى الفرسان، لتنجب له طفلاً قوياً!.
- بريطانيا: كان الفرسان في العصور الوسطى يقبل بعضهم بعضاً قبل البدء بدورات القتال التنافسية. وكانت القبلة تعني الثقة بالآخر: فالاقتراب والعناق دليل ثقة بأن الآخر لن يعضك أو يطعنك. وكانت القبلة كذلك تعادل البصمة في العقود القانونية، يبصمها المتعاقد في أسفل العقد عند إشارة X. وفي عصر النهضة بقيت قبلة الصداقة. وكان المضيف يشجع ضيفه على تقبيل أفراد أسرته من الشفتين. وفي العام 1665م حصل الطاعون الكبير في لندن واستمر عاماً كاملاً. فتراجع التقبيل خوفاً من العدوى، وحلّ محلّه الانحناء ورفع القبعة والتلويح باليد والمصافحة.
- الولايات المتحدة الأمريكية: في مدينة ديرفيلد بولاية إلّينوي، كان المرور يتعطل في محطات القطار من جراء تقبيل الزوجات أزواجهن المغادرين. فخصّصت الجهات المسؤولة منطقتين في المحطة: منطقة يسمح فيها بالتقبيل، ومنطقة لا يسمح فيها بالتقبيل، وفي مطار نيوأورليانز كُتبت لافتة بهذا الشأن تقول:"يرجى البدء بقبلات الوداع قبل وقت كافٍ من موعد مغادرة الطائرة!"، وفي واشنطن، المشهورة بقبلاتها الاجتماعية، كان الرئيس كارتر يقبل النساء اللاتي يحطن به، علماً بأن كارتر ينتمي إلى الطائفة المعمدانية الأكثر محافظة في أمريكا.
- الدانمرك: كانت النساء في الدنمرك يرتدين قديماً قبعات لها حافة علوية ممتدة نحو الأمام، وكان يطلق على هذه القبعات آنذاك "قَبِّلني إن استطعت!"، وكان الرجل يجد يصعوبة في تقبيل المرأة التي تضع هذه القبعة لبروز الحافة.
ومن الأوهام الشعبية السائدة في الغرب ما يلي:
- إذا عطسْت يوم الثلاثاء فإنك ستقبّل شخصاً غريباً.
- إذا تمكّنت من تقبيل مرفقك، فإن جنسك سيتغيّر.
- إذا أصِبْت بحكّة في الأنف فإن أحد البلهاء سيقبّلك.
- إذا تبادل رجل واقف القبلات مع امرأة جالسة فإنهما سيتشاجران.
- إذا أردت أن يذهب عنك ألم الأسنان، فقبِّل حماراً في خدّيه.
- إذا سقط من يديك كتاب – وخاصة إذا كان الكتاب مقدساً- أو قطعة خبز على الأرض، فعليك رفع كل منهما وتقبيلهما احتراماً للكلمة واحتراماً للنعمة، حتى لا تتعرض لسوء الحظ.
القبلة في الأمثال الشامية:
يستخدم أهل الشام بعض الأمثال في أحاديثهم اليومية، وفيها كلمة "بَوْس" أو "بَوْسة"، ولهذه الأمثال دلالات تفصح عن الحكمة الشعبية أو الوصف أو التقرُّب والمديح. وهذه طائفة منها:
- بوس الأيادي ضحك عَ اللحا. (النفاق)
- الإيد يللي ما بتقدر عليها... بوسها، وادْعي عليها بالكسر. (النفاق)
- كَنِّس بيتك ما بتعرف مين بيدوسه، وغسّل وِجَّك ما بتعرف مين بيبوسه. (النظافة)
- يللي بفرّق ولد عن ولد بوسة... إلو بجهنم دوسه. (العدالة بين الأولاد)
- هالبنت ما باس تمّها... غير أمها. (العفة)
- كل صغير انتشا... طَخّى الكبير وباس إيده. (احترام الكبير للصغير)
- فلان بوسته مثل كاسة الحجامة. (شديدة ومزعجة)
- أبوس روحك وتش (وجه) وقفا. (مديح باللهجة الحلبية)
حقائق عن القبل:
* تشير الإحصاءات إلى أن الإنسان يحصل خلال طفولته على أكبر كمية من القبل.
* تشير الإحصاءات أن التدخين هو العدو الأول للقبلة.
* ينفق الإنسان خلال حياته ما يعادل مدة أسبوعين في التقبيل إذا عاش مدة (65 سنة) في المتوسط.
وهذا يعادل (336 ساعة)، أي (20160 دقيقة)، أي (120960 ثانية).
* أشهر قبلة تاريخية هي: قبلة اللورد نيلسون لليدي هاملتون في ليلة رأس السنة للعام 1800م. فقد كانت قبلة بين قرنين هما الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت القبلة على ظهر سفينة في عرض البحر!.
* أطول قبلة في التاريخ كانت بين Dolphen Chris و Eddy Leaven في العام 1984م، في شيكاغو، وقد استمرت (17 يوماً) و (10 ساعات) ونصف. غير أن الموقع الإلكتروني لنادي محطّمي كتاب غينيس للأرقام القياسية يذكر:" أن أطول قبلة كانت بين مارك وروبرتا جريز وورلد في العام 1998م، وقد دامت (29 ساعة!)".
* وأمام شاشات التلفزيون، انهال نجم هوليوود ريتشارد غيير على نجمة السينما الهندية شيلبا شيتي بوابل من القبل على المسرح مما عرّضه لملاحقة قانونية وتسبب في مشاكل كبيرة في الهند.
القبلة في الأفلام:
* أول قبلة في فيلم سينمائي حدثت في فيلم "القبلة" من إنتاج توماس إديسون (1896) بين May Irwin و John Rice.
* الفيلم الذي يحتوي العدد الأكبر من القبلات هو فيلم "دون جوان" (1926) ل"شركة وورنربروذرز"، وقد بلغ عدد القبلات فيه 191 قبلة!.
* أطول قبلة في السينما كانت في فيلم "أنت في الجيش الآن" (1941)، وكانت بين Regis Toomey و Jane Wyman، وقد بلغت مدتها 185 ثانية.
ويقول الدكتور عبد المعطي بيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية وعميد كلية أصول الدين السابق بجامعة الأزهر:"إنّ القبلة أصلها حرام في العلاقات الفنية، إذ لا يجوز استخدلم القبلة ولا يوجد شيء اسمه الضرورة الدرامية، فالضرورة في الأفلام ليست ضرورة شرعية، وتساءل: هل سيهلك من لا يقبِّل زميلته، أو من تمثّل أمامه في فلم ما؟"، وترد المخرجة إيناس الدغيدي:"نحن ننقل الواقع، فكيف يمكن التعبير عنه؟ وتؤكد قائلة:"لا يمكن أن تكون هناك سينما بدون قبلات ".
وتقول الدكتورة عزت كريم أستاذة علم الاجتماع:"إن القبلة تعبر عن وحول الإطار الاجتماعي للقبلة، ولا نستطيع منعها على الإطلاق، وأعارض الأحاسيس العاطفية التي نحتاجها في بعض العلاقات".
القبلة في الفن:
بقي أن نذكر أن كبار الرسامين رسموا لوحات عن القبلة منهم:
- أدولف وليام بوغرو Adolphe- William Bouguereau ("القبلة الأولى"، 1873م).
- غوستاف كليمت Gustav Klimt ("القبلة"، 1907م).
- روي ليختنشتاين Lichtenstein Roy ("القبلة"،؟).
- بابلو بيكاسو Pablo Picasso ("عائلة المهرّجين"، 1905م).
القبلة وصحة الإنسان:
الشائع أن التقبيل يطيل عمر الإنسان: فهو عامل مهم لتخفيض التوتر وضغط الدم. ويشير أطباء الأسنان إلى أن التقبيل مفيد للأسنان: فهو يزيد إفراز اللعاب في الفم، مما يساعد على التخُّلص من بقايا الطعام وتخفيض الحموضة في الفم دفعاً للتسوّس. وفي دراسة قام بعا الدكتور آرثر زابو وعلماء نفس ألمان، تبين أن الأزواج الذين يقبِّلون زوجاتهم قبل مغادرتهم صباحاً إلى العمل هم أسعد وأفضل صحة وأعظم إنتاجاً، ويمكن أن يعيشوا عمراً أطول.
لعل التقبيل من أهم ممارسات الإنسان التي تعبر عن الود والحنان، والثقة والرغبة. والجسم الإنساني مبرمج من أجل ممارسته بنجاح:، إذ تحرِّك القبلة الواحدة حوالي (28) عضلة، إحدى عشرة منها في الشفتين، وسبع عشرة في اللسان. وهناك ظواهر فزيولوجية أساسية تتبدى في تفاعلات بيولوجية وعصبية وهرمونية تتصل بالجنس، تثيرها القبلة ذات الهدف الجنسي. والتقبيل يثير مركز الإثارة في الدماغ، فيوعز إلى الغدد بإفراز هرمونات معينة. والغدد فوق النخامية هي قائدة أوركسترا الغدد في هذا. وأهم الهرمونات التي تعطي الحد الأعلى من المتعة هرمون الأكسيتوسين Oxytocin. وهناك غدد دهنية في الفم وأطراف الشفتين، تفرز مادة تدعى سيبُم Sebum، وظيفتها متابعة التقبيل إذا بدأ، وهي التي تخلق حالة الإدمان على تقبيل من نحب.
ومن الطريف أن نعرف أن شفاه المحبين يمكن أن تتلاقى في الظلام دون انحراف عن الهدف بفعل أعصاب مرشدة في الدماغ. فسبحان من خلق فأبدع!. وقالت الدكتورة عزت كريم:"إن القبلة شيء غريزي ظهر منذ بدء الخليقة لأنها تعبر عن الإحساس العاطفي، ليس فقط الإحساس الرومانسي بل بين جميع الأفراد، فالقبلة تعبير عن العاطفة، وهي أهم الأمور لجعل الشخصية سوية لدى الطفل". وقالت:"تنزّل القبلة الوزن بحرقها سعرات حرارية، وكذلك تعطي إحساس الشبع، وتقلل إلحاح الحاجة للحلو وخاصة الشكولاتة، والقبلة ضرورية لصحة الأسنان".
إلاّ أن أطباء صينيون حذّروا من القبلات، بعدما أصيبت شابة صينية بشبه صمم بسبب "قبلة ساخنة" أدت إلى ثقب طبلة أذنها اليسرى، وأشارت صحيفة "تشاينا ديلي" الصينية إلى أن الشابة التي تعيش بمنطقة جوهاي بإقليم جواندونج وهي في العشرينيات من عمرها، ونقلت على إثر القبلة إلى المستشفى. ونقلت الصحيفة عن طبيب أخصائي قوله:"إنه من المحتمل أن تسترجع الشابة قدرتها على السمع بوضوح بعد حوالي شهرين". وأوضح الطبيب: "أن الأذن الداخلية مرتبطة بفم الأسنان عن طريق أنبوب وظيفته الأساسية توازن الضغط بين الإثنين، مشيراً إلى أن القبلة تسبب في خفض الضغط داخل فم الشابة، ما أسفر عن ثقب طبلة الأذن، ومن ثم الصمم. وفيما يعد التقبيل أمراً آمناً تماماً، إلاّ أن الأطباء ينصحون بتوخي الحذر أثناء التقبيل بصورة عامة.
كما أن أستاذ طب الأطفال بكلية الطب بجامعة القاهرة الدكتور عادل عاشور له رأي آخر، فقد أعلن عن رغبته في إنشاء جمعية لمنع القبلات بين الأصدقاء، وزاد على ذلك بإعلان رغبته في منع القبلات بين الأزواج، وكذلك للأطفال، وهو الأمر الذي بدا غريباً، وعن السبب الرئيس في طرحه فكرة إنشاء الجمعية، أكد الدكتور عادل أن كافة الأبحاث العلمية التي نشرت في كبرى المجلات الطبية العالمية، أجمعت على الأضرار الطبية الخطيرة التي يسببها تبادل القبلات، من خلال انتشار العدوى من الأمراض الخطيرة الفيروسية والميكروبية، وأبرزها الأمراض الجلدية، ويأتي على رأسها حَب الشباب، ومن الأمراض الميكروبية، مثل مجموعة الميكروبات العنقودية، وهي ميكروبات موجودة في فم الإنسان بصورة طبيعية، كذلك الحُمَّى الشوكية، والأمراض الفيروسية التي تنقلها القبلة أيضاً، مثل الزكام والرشح، والتي يجب عدم الاستهانة بها حيث تصيب الخلايا المبطنة لخلايا المخ، وينتج عنها ارتفاع شديد في درجة الحرارة يصعب السيطرة عليها، وقد تؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان، وكذلك أيضا التهاب الغدة النكفية، وكذلك الحصبة الرمادية والألمانية والفيروسات الكبدية، وأكد أن الجمعية تضم في عضويتها كافة التخصُّصات الطبية، لشرح الآثار السيئة للقبلة. وقد يرى البعض أن كل من أراد أن يقبل طفل أن يتمضمض ويدهن شفتيه بمحلول "البيتادين"!.
إلاّ أن هذا الكلام باطلٌ ومُعارضٌ للسنة النبوية، فقد ثبت - كما مر سابقاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل زوجاته، وكان يقبل ابنته السيدة فاطمة والحسن والحسين رضي الله عن الجميع، وأفتى للشيخ بالقبلة في الصيام، وأباح تقبيل المبرّة والإكرام، وتقبيل المودّة والشفقة، كتقبيل يد العالِم الورع والسلطان العادل، وتقبيل يد الوالدين، والمربِّي، وتقبيل الولد للمودّة على الرأس والجبهة والخد. فقد ورد في الأثر عند أحد العارفين:"سؤر المؤمن فيه شفاء".
القبلة في الشعر العربي:
لقد صوَّرت القبلة في الشعر العربي في أشكال جميلة ساحرة، ومن أشهرمن صورها وكتب عنها الشاعر إبراهيم ناجي، فقال في قصيدة له بعنوان:"تحليل قبلة":
ولما التقينا بعد نأيٍ وغربةٍ
شجيين فاضا من أسى وحنينِ
تُسائلني عيناكِ عن سالف الهوى
بقلبي... وتستقضي قديم ديوني
فقمت وقد ضج الهوى في جوانحي
وأن من الكتمان... أيّ أنينِ
يبثّ فمي سرّ الهوى لمقبِّلٍ
أجود له بالروح غير ضنينِ
إذا كنت في شكٍّ سَلي القبلة التي
أذاعت من الأسرار كل دفينِ
مناجاة أشواقٍ وتجديد موثقٍ
وتبديد أوهامٍ وفضُّ ظنونِ
وشكوى جوى قاسٍ وسقم مبرّحٍ
وتسهيد أجفانٍ وصبر سنين
***
إلى أن جاء الشاعر نزار قباني ليتوج هام الشعر الوجداني في القرن العشرين، بتصويره للقبلة بأضدادٍ ومعانٍ وصور، زادت النّصّ روعة وبهاءٍ في قصيدته (القبلة الأولى).
عامان مرا عليها يا مقبِّلتي
وعطرها لم يزل يجري على شفتي
كأنها الآن لم تذهب حلاوتها
ولا يزال شذاها ملء صومعتي
إذ كان شعرك في كفي زوبعةً
وكان ثغركِ أحطابي وموقدتي
قولي: أأفرغت في ثغري الجحيم؟ وهل
من الهوى أن تكوني أنت محرقتي؟
لما تصالب ثغرانا بدافنةٍ
لمحت في شفتيها طيف مقبرتي
تروي الحكايات أن الثغر معصيةٌ
حمراء...إنك قد حببت معصيتي
ويزعم الناس أن الثغر ملعبها
فما لها التهمت عظمي وأوردتي؟
يا طيب قبلتك الأولى... يرف بها
شذا جبالي... وغاباتي... وأوردتي
ويا نبيذية الثغر الصبي...إذا
ذكرته غرقت بالماء حنجرتي
ماذا على شفتي السفلى تركت... وهل
طبعتها في فمي الملهوب... أم رئتي؟
لم يبقَ لي منكِ... إلاّ خيط رائحةٍ
يدعوكِ أن ترجعي للوكر... سيدتي
ذهبت أنت لغيري... وهي باقية
نبعاً من الوهج... لم ينشف... ولم يمت
تركتني جائع الأعصاب... منفرداً
أنا على نهم الميعاد ... فالتفتي
***
وعن تقبيل ليلى، يحضرني هذين البيتين:
بربك هل ضممتَ إليك ليلى
قُبَيل الصبح أو قَبّلتَ فاها؟
وهل رَفّت عليك قرون ليلى
رفيف الأقحوانة في شذاها؟
***
ومن أشعار ألف ليلة وليلة هذه الأبيات المموسقة العذبة:
سألتُ: من أمرضني
في قُبلةٍ تشفي السّقمْ؟
فقال: لا... لا أبداً
قلتُ له: نعمْ... نعمْ
فقال: خُذْها بالرِّضا
من الحَلالِ وابتسِمْ
فقلتُ: غَصْباً، قال: لا
إلاّ على رأسي علَمْ
فلا تسَلْ عَمّا جرى
واستغفِر الله... ونَمْ
***
أما يزيد بن معاوية، فقد أبدع حين قال :
ألا فامْلِ كاسات خمر وغنني
بذكر سُليمى والرباب وتنعم
وإياك ذكر العامرية... إنني
أغار عليها من فم المتكلِّمِ
وأغار على أعطافها من ثيابها
إذا لبستها فوق جسمٍ منعّمِ
وأحسد كاسات تقبّل ثغرها
إذا وضعتها موضع اللثم في الفمِ
***
أسباب التقبيل:
يجب أن نعترف بداية، بأن القبلات سلوك طبيعي مخلوق مع الإنسان منذ آدم وحواء والنحلة!، أما عادة تقبيل الأيادي في مجتمعاتنا العربية فترجع لبعض العادات المكتسبة منذ حكم الخلافة العثمانية وأكثر، كما أن تقبيل أيادي النساء في لقاءات الطبقة الأرستوقراطية -كما نرى في الأفلام-، فهي من العادات الغربية ، وقد شاعت في بعض المجتمعات العربية.
وعودة إلى تقبيل أيادي الوالدين والجدين في الأسرة الواحدة، وكذلك تقبيل أيادي المشايخ ورجال الدين، فإنه ما زال شائعاً في أكثر المجتمعات، ومن المستحسن ألاّ تنقلب القبلات إلى عادة يومية تمارَس "عَ الطالعة والنازلة"، لأن ذلك يفقدها قيمتها، وتفضّل القبلات بين الأصدقاء أو الصديقات على الخدّين. وليس:"من طَقْ طَقْ للسلام عليكم"، أي من قُبَل الترحاب وانتهاءً بالوداع. وهو إشارة إلى المبالغة الممجوجة.
ويفضل التقبيل الديمقراطي - إذا جاز التعبير- في المناسبات التي تدعو إليها، ولا حاجة إلى تقبيل اليد والرِّجل والأرض بحسب المراتب، إلاّ إذا دعت بعض التقاليد إلى ذلك، كما في بعض دول المشرق العربي والمغرب العربي لدى مقابلة الملك أو الأمير. أما إذا كانت القبلات خارج إطار التقاليد المتبعة، كالتقرّب لهذا الأمير أو ذاك الملك، أو كالتذلّل والخنوع والمهانة، أو للنفاق، كما قال المثل:"بوس الأيادي ضحك عَ اللحا"، فهذه كلها من الأسباب غير المنسجمة مع العادات والتقاليد ولا الأعراف الاجتماعية النبيلة، كما أنها لا تنسجم مع الفطرة الإنسانية في التقبيل التي مردُّها لأسباب إيجابية وطيبة، لمسناها في فقهنا الإسلامي، فأسباب التقبيل كثيرة، نفسية وجسدية وعاطفية وجنسية واحتراماً ومهانة... إلخ، والقبلة تقول الحقيقة، حقيقة إحساس الشخص المقبل نحو الآخر.
أما أسباب استفحال القبلات بين العرب، فإن هذا يعود إلى الدعوة إلى مراجعة الوعي الجمعي الراهن بعامة، والوعي بكُنه وأسباب هذا الاستفحال للقبلات بيننا بخاصة، لاكتشاف نقاط الضعف في عدم القدرة على مواكبة الوعي الحضاري المطلوب بشكلٍ عام، حتى لا يؤدي التقبيل إلى اتساع الفم لدرجة يكون فيها أكبر وأكثر استخداماً من الرأس -كما ذكر الأستاذ عامر العظم- ، بمعنى أن يتحوّل إلى عادة معشِّشة في العقل الباطن، لا يمكن استئصالها، كما حصل مع بوب هوب، النجم الكوميدي، الذي تُروى عنه هذه النكتة:
(سألته زوجته مرة بعد أن قبَّلها:"كيف تعلّمت أن تقبّل بهذه الطريقة؟" فقال:"الأمر طبيعي كما أعتقد. فأنا أنفخ كل مرة عجلات دراجتي بفمي. فأصبح التقبيل عندي بهذه الطريقة عادة!"). هنا أصبح التقبيل عند بوب هوب عادة، ومع استفحال هذه العادة، تحوّل إلى ظاهرة سلبية، بل وخطيرة أيضاً. فالمطلوب في مجتمعنا الحافل بكل عجيب هو التقبيل الحضاري، الذي يقوم على الاحترام المتبادل والصدق في التوجّه، دون منفعة مخطط لها، يسمو إلى فضاء المحبة الأرحب، متكئاً على سحاب الحنان والمودة والرغبة الصافية، الندية بمزن الفرح والمواساة، معزِّزاً القيم المهنية وغير المهنية، بدلاً من الغرق في وحل الخنوع والمهانة والذل التي نشاهدها بين الفينة والأخرى في بعض اللقاءات والمناسبات، أو على شاشات الفضائيات.
وأخيراً وليس آخراً، لا بد لي من أن أختم هذه الدراسة بالحديث عن القبلة السياسية، وخاصة بين السياسيين والدبلوماسيين والحُكام، هذه القبلة التي قد يكون مفعولها مفعول السِّحْر، إذا أحسن استغلالها، بعيداً عن المراوغات الزائفة، أو المجاملات الباهتة، أو الأعراف المتبعة، ويحضرني في هذا المقام، ما رواه لي أحد أعضاء الوفد الفلسطيني برئاسة ياسر عرفات، في الثمانينيات من القرن العشرين، إلى إحدى الدول الإفريقية، ورئيسها يدين بالديانة المسيحية، من أنه عند تبادل الهدايا، فتح ياسر عرفات الهدية التي يريد أن يقدِّمها لرئيس تلك الدولة الإفريقية، وهي مكونة من مُجَسّم من الصَّدَف لكنيسة القيامة، ومَسابح طويلة صدفية يستعملها الرُّهبان، فانكبّ عرفات على المجسّم والمسابح، يقبّلها بانفعال شديد، وإذا بالدموع تنهمر من عينيه بحرارة، وهو يردّد: "غداً لقاؤنا يا سيادة الرئيس في القدس... غداً لقاؤنا في بيت لحم"، فأبكى الرئيس الإفريقي، وأبكانا جميعاً. ولا شك أن الرواية غنية عن التعليق.
أرجو أن أكون قد وفقت في إعطاء فكرة عن: "التقبيل... تاريخاً...وآثاراً"، من خلال هذه الدراسة المتواضعة، والمستعجلة، والتي تحتاج إلى الغوص أكثر في مضامينها، حتى تصبح دراسة موثقة وشاملة، حسب الشروط المتبعة في إعداد البحوث.
***