تاريخ باريسقطنت قبيلة باريزي Parisi الكلتية جزيرة La Cité في القرن الثالث قبل الميلاد، مكونةً النواة الأولى لما سيصبح مدينة باريس. وفي عام 52ق.م بدأ الرومان ببناء مدينة جديدة فوق هضبة قريبة من الضفة المقابلة للنهر، أطلقوا عليها اسم «لُوتيسية» Luticia، ما فتئت تتوسع حتى ضمّت الموقع الأصلي. وأُقيم بين الموقعين جسر خشبي. وقد شُيدت لوتيسية مثلها مثل أي مدينة رومانية وفق مخطط تربيعي، وتضمَّنت كل المرافق الضرورية لحياة المجتمع.غزا البرابرة الجرمان لوتيسية وأحرقوها في أواخر القرن الثالث الميلادي، فقرَّر من بقي من أهلها رفع سور حول بقاياها يقيهم شرَّ غزوات لاحقة. وقد أعطى هذا السور للمدينة التي صار اسمها باريس في بداية القرن الرابع أهميّةً استراتيجيّةً، تجلّت باختيارها مركزاً لإقامة عدد من أباطرة رومة (357-366) ثم عاصمة للملوك الميروفنجيين (508).ومع تحوّل الملوك الكارولنجيين عن باريس عاصمةً، بقيت من أكثر مدنهم ازدهاراً وغنىً حتى الغزو النورمندي الذي دمرها تماماً في بدايات القرن التاسع، لكنها انبعثت من رمادها في نهاية ذلك القرن، وردَّت النورمنديين بعد سنة من الحصار (885) ولم تلبث أن صارت مركزاً تجارياً ودينياً وعلميّاً مهماً، فازداد عدد سكانها واتسعت رقعتها وتطوَّرت في وجهتين متعارضتين حدَّدتا ـ حتى اليوم ـ طبيعة باريس كعاصمة اقتصادية وثقافية. ففي حين ازدهرت على الضفة اليمنى لنهر السين الموانئ والأسواق التجارية، أخذت تظهر على ضفته اليسرى المدارس الدينية المنعتقة من سلطة أسقف المدينة والمتآلفة في إطار تجمُّع مهني كان النواة لما سيُعرف لاحقاً باسم الجامعة. وقام الملك «فيليب أوغست» ببناء سور حول ضفَّتي المدينة يدرأ عنها خطر الجيوش الإنكليزية والنورمندية، وقد جعل طوق هذا السور ينعقد عند حصن كبير أطلق عليه اسم اللوفر.وفي هذا الزمن تطوّر العمران المدني والكنائسي فظهر في المدينة الكثير من الصروح الجديدة، وبُدئ في عام 1163 ببناء كاتدرائية نوتردام التي لم تُنجز نهائياً إلا في عام 1250. كما تطوّر النشاط التجاري بوجه خاص فغدت باريس سوقاً تجاريةً كبيرةً، وقويت فيها شوكة الطبقة البرجوازية.عانت باريس في القرنين الرابع عشر والخامس عشر آثار الحروب المستمرة (حرب المئة عام)، ووباء الطاعون (1350)، والاحتلال الإنكليزي (1411-1436)، لكنها عادت شيئاً فشيئاً إلى مكانتها الأولى، واجتذبت الكثير من أهالي المناطق الأخرى حتى صارت في نهاية القرن الخامس عشر أكبر مدينة في أوربة بعد القسطنطينية.
عادت إلى باريس أهميتها بكونها عاصمة ملكية (1528)، لكنها عانت حرباً طائفية عنيفة ضد الهيغنوت بلغت ذروتها في مذبحة سان بَرتِلمي Saint Barthélemy (24 آب 1572) التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف بروتستنتي. وعاشت باريس عقوداً من الركود والانحطاط لم تنته إلاّ بدخول هنري الرابع إلى حاضرتها واهتمامه بها شخصياً، فشق فيها الشوارع وبنى الجسور وأقام الساحات وأشرف على توسيع قصر اللوفر، فعَرَفت المدينة في عهده وعهد خلفه لويس الثالث عشر ازدهاراً كبيراً دام حتّى بدايات حكم لويس الرابع عشر. ولكي يتابع هذا الملك حروبه الخارجية، قام وزيره الكردينال «مازاران» بفرض ضرائب باهظة، فعمَّ الاستياء بين السكان، وقام الباريسيّون بانتفاضة شعبيّة(1648-1649) La Frond انتهت بانتصار الملك الذي هجر باريس نهائياً وجعل من ضاحيتها فرساي (1682) مقراً للبلاط. وقد ترسّخ في عهد هذا الملك التمايز الطبقي في المجتمع الباريسي فازدهرت البرجوازية، في حين ازدادت الطبقات الشعبية فقراً وبؤساً. ومع ذلك عاشت باريس في النصف الثاني من القرن السابع عشر واحداً من أكثر عهودها التاريخية ازدهاراً وحضارةً، فكانت مهد «عصر التنوير»، ومركز الإشعاع الفلسفي والفني والأدبي.وفي القرن الثامن عشر لم يتغيّر منحى التطوّر الاجتماعي في باريس، فكانت البرجوازية تتابع صعودها وتحتل موقع القيادة الاجتماعية ـ الاقتصادية بدل الأرستقراطية المنحسرة صاحبة السلطة السياسية، أما عامة باريس فكانت مشكلاتهم الاجتماعية تتفاقم والبطالة تتزايد حتى غدت حياتهم لا تطاق مع نهاية ذلك القرن، وقد استغلّت البرجوازية هذه النقمة الشعبية، واستطاعت توظيفها في صراعها مع البلاط. وفي يوم 14 تمّوز 1789، بعد أكثر من عامين من القلاقل والاضطرابات، قامت انتفاضة في باريس أثارها المُعْدَمون الذين عرفوا باسم (المحرومين من السراويل) «اللامتسرولون» Les Sans Culottes، واقتحموا حصن الباستيل بغية الحصول على السلاح وتحرير السجناء، وصار هذا اليوم رمزاً لبداية ثورة فرنسية على الاستبداد الملكي الذي دام ثمانية قرون.اتصفت سنوات ما بعد الثورة بالبلبلة وعدم الاستقرار، وتردَّت الأوضاع السياسية مما هيّأ لتسلم نابليون بونابرت السلطة عام 1799، وقد أراد نابليون جعل باريس عاصمة لأوربة، ومرآةً لمجده، فأقام النصب التذكارية (قوس النصر، كنيسة المادلين، الفاندوم...)، ووسّع قصر اللوفر، ونظّم المدينة وخدماتها (ترميم البيوت، جَرّ المياه، بناء الجسور، مدّ شبكة التصريف...) وجعلها مركزاً وحيداً لإدارة البلاد.عَرَفَت باريس في العقد الأول من القرن التاسع عشر تحوّلاً اجتماعياً عميقاً، رافقه فرز طبقي حاد انعكس على خريطتها الديمغرافية، فتجمَّع الأغنياء في نصفها الغربي حيث ظهرت أحياء جديدة مُنظَّمة، واسعة ونظيفة، وتكدّس الفقراء في وسطها وفي قسمها الشرقي، حيث انتشرت الأوبئة (الكوليرا 1832)، وارتفعت نسبة الكحولية والجرائم والوفيات.وكان هذا الفرز أساس الثورات الباريسية المتلاحقة (حزيران 1830، شباط 1831، حزيران 1832، نيسان 1834، شباط 1848، حزيران 1848) التي دفعت محافظ منطقة السين «هوسمان» في عهد الامبراطورية الثانية إلى العمل على إيجاد مشروعات تمتصّ البطالة، وعلى تفكيك بنية باريس القديمة، مما دفع بالسكان الفقراء إلى تخوم المدينة أو إلى الضواحي.ومع ذلك عرفت باريس في نهاية ذلك القرن واحدة من أهم محطاتها الثورية (كومونة باريس 18 آذار- 21 أيار 1871) إذ أدت هزيمة النظام أمام البروسيين وحصارهم العاصمة إلى دفع «البروليتارية» وحلفائها إلى إعلان حكومة ثورية في باريس، لكن الجيش النظامي بقيادة «تيير» L.A.Thiers دخل المدينة بعد أقل من شهرين، وقضى على الكومونة بوحشية منقطعة النظير (20000 قتيل).عاشت باريس في بداية القرن العشرين مرحلة ازدهار اقتصادي واسع، لكن الحرب العالمية الأولى وضعت حدّاً لهذا الازدهار.عادت باريس بعد هذه الحرب إلى التوسع، وزاد «التمركز» الصناعي في الضواحي القريبة، وفي عام 1940، في بدايات الحرب العالمية الثانية، وأمام الخطر الألماني المحدق، انسحبت الحكومة الفرنسية إلى مدينة تُورTour، وأُعلنت باريس مدينة مفتوحة، فدخلها الألمان في يوم 14 حزيران، وأقاموا فيها مركز قيادة جيوش الاحتلال. لكن سرعان ما تألفت مجموعات المقاومة السرّية التي أسهمت بفعاليّة في عملية تحرير المدينة 19-24 آب 1944، وعادت إليها الحكومة الفرنسية بقيادة شارل ديغول في 31 آب.وفي عام 1968 ظهرت في باريس حركة احتجاج طلابية واسعة تطالب بإصلاحات سياسية واجتماعية، تلتها حركة إضراب عمالي، كانتا شديدتي الأثر في تاريخ فرنسة إذ أعادتا النظر في قيم المجتمع الفرنسي وأعرافه.وشهدت باريس في النصف الثاني من القرن العشرين تطوراً كبيراً في شتى المجالات، عزَّز التفاوت بينها وبين بقية المناطق الفرنسية، وتمثل في التزايد الكبير في عدد سكانها، إذ يعيش في باريس وضواحيها اليوم سدس المجتمع الفرنسي، ويعمل فيها ربع اليد العاملة. وكان من نتائج هذا التطور أن تسارعت حركة التحديث العمراني فأزيلت أحياء شعبية بكاملها لترتفع مكانها عمارات حديثة تستقبل ذوي الدخول المتوسطة، أما الفقراء والعمال والمهاجرون فقد هُجّروا إلى الضواحي الشعبية حيث ترتفع الكثافة السكانية إلى أعلى معدلاتها.ومن ناحية أخرى، ظهرت في مدينة باريس في النصف الثاني من القرن ال