القراءة الإيقاعية للقصيدة

مقدمة

يقول الدكتور سيد البحراوي في كتابه - البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث- :
« يُسْتخدم مصطلحُ الإيقاع أساسًا في الموسيقى، باعتباره تنظيمًا للشّقّ الزمني فيها (تتابع الأحداث الصوتية في الزمن)... غير أن الإيقاع في الشعر لا يقف عند حدود هذا المعنى العامّ، وإنما تحقق علاقة قوية مع الإيقاع الموسيقي تمتدّ منذ بداية نشأة الإنسان... الإيقاع خاصيّة جوهريّة في الشعر، وليس مفروضا عليه من الخارج، وهذه الخاصية ناتجة - في الحقيقة- عن طبيعة التجربة الشعرية ذاتها، تلك التجربة الرمزية التي تحتاج إلى وسائل حسيّة لتجسيدها وتوصيلها، ومن هذه الوسائل الإيقاع والمجاز(اللغة).»
القراءة الإيقاعية:

*ملاحظة: هذه القراءة هي ثمرة بحوث عديدة في ميدان الإيقاع الشعريّ، وفيها من الاجتهاد الشخصي الكثير.
--------------------
- نفترض قصيدة من 14 بيتا موزونة على بحر الكامل، ضربها مقطوع (مُتَفَاعِلْ)، ولم يدخل عليها أيّ زحاف، أي على الوزن التالي:

مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ *** مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلْ

هذه القصيدة ستكون بمثابة الوزن النموذج الذي سنبني عليه دراسة إيقاع قصيدة شاعرنا نديم الفرات (فالح البدري).
وفي هذا الوزن النموذج يكون النسق الإيقاعي العام للقصيدة منسجمًا انسجامًا كاملاً.

الجدول التالي يبيّن الاضطراب الإيقاعيّ في القصيدة، وفيه إشارة إلى مواقع التغيير من زحاف (الإضمار) وعلّة (القطع) بالحرف الذي وقع التغيير فيه.
ويُوَضّحُ المنحنى البيانيّ أسفله الزمن التقريبيّ لكل بيت بالثواني:



والمنحنى البياني التالي يبيّن عدد التغييرات التي أصابت صدور القصيدة وأعجازها ومجموعها في كل بيت:



من خلال تلك المعطيات يمكن قول ما يلي:
- البيت الأول جاء مصرعا، وهو من عادة الشعراء العرب، والتصريع لا يؤثر في النسق الإيقاعي العام للقصيدإلا تأثيرًا إيجابيًّا، لأنه يعلن عن بدايتها. وهو بذلك أسرع بيت في القصيدة.
- سرعان ما يتغيّر إيقاع القصيدة انطلاقا من البيت الثاني، بترك التصريع، وبتمام تفعيلة العروض.
- جاء إيقاع القصيدة عمومًا متوسط الانسجام، ولكن اعتراه الاضطراب في 4 مواضع لأسباب مبينة كالتالي (ومشار إليها بدوائر حمراء في المنحنى البيانيّ):

البيت الثامن: لعل السببين الرئيسيْن الذين جعلا من البيت يضطرب إيقاعه بشدّة، عودة الشاعر إلى استعمال التصريع من جهة، والثقل العروضي المشار إليه سابقًا من جهة أخرى.
البيتان العاشر والثالث عشر: اضطراب هذين البيتين الإيقاعي كان نتيجة دخول عدد كبير من زحاف الإضمار على تفعيلاته.
البيت الرابع عشر: يعتبر هذا البيت خارج عن النسق الإيقاعي العام للقصيدة، لا لكثرة التغييرات فيه، ولكن لقلتها، وهو يعتبر أسرع بيت في القصيدة بعد البيتين الأول والثامن.
استنتاج:

إن الزحافات والعلل بدلالاتها المجردة لا تعني شيئًا كبيرًا في الإيقاع الشعريّ، لأن هذا الأخير سيتحقق إذا كان توزيعها على تفعيلات القصيدة توزيعًا متماثلا أو أقرب للتماثل، وإذا كان عددها مقبولاً. وبالتالي فإن الاستحسان والاستقباح في الزحاف ينبغي ألا ينطلق من طبيعة الزحاف في التفعيلة فقط، وإنما من موقعه في القصيدة بشكل عامّ. يقول قدامة: « من عيوب (الشعر) التخليع، وهو أن يكون قبيحَ الوزن قد أَفْرَط قائله في تزْحيفه، وجعل ذلك بُنْيَةً للشِّعر كلِّه، حتى مَيَّلهُ إلى الانكسار، وأخرجه عن باب الشعر الذي يَعْرِف السامعُ له صِحّةَ وزنِه في أوَّل وهْلة، إلى ما يُنْكرُه حتى ينْعَم ذوقه، أو يُعرِضه على العروض فيصحّ فيه، فإنّ ما جرى من الشعر هذا الْمَجرى ناقِصُ الطلاوة، قليلُ الحلاوة...» قدامة بن جعفر، نقد الشعر.


في انتظار قراءة أخرى لإحدى روائع شعراء الفصيح
تقبلوا مني جميعا خالص ودّي وفائق تقديري واحترامي