"المشكلة"و"الإشكالية" الدكتور عابد الجابري
أ- لقد استعملنا لفظ "الإشكالية" ولم نستعمل "المشكلة" قصدا. والفرق بينهما، عندنا, يتلخص في كون المشكلة تتميز بكونها يمكن الوصول بشأنها إلى حل يلغيها. فـ "المشاكل" في الحساب تنتهي إلى حل، باستثناء بعض المعادلات الرياضية التي يكون حلها، أعني التخلص منها بعد البحث والمحاولة، بالإعلان عن كونها لا تقبل الحل. أما المشاكل المالية والاقتصادية والاجتماعية عموما, والمشاكل التي يصادفها العلماء في العلوم الطبيعية بمختلف أنواعها, فهي جميعا تنتهي إلى نوع من الحل، آجلا أو عاجلا، ما دام المجال الذي تطرح فيه ينتمي إلى الواقع الموضوعي ويقبل نوعا ما من التجريب. وفي هذا الإطار يصدق قول ماركس: "إن الإنسانية لا تطرح من المشاكل إلا تلك التي تقدر على حلها". لماذا؟ لأن "المشاكل"، بهذا المعنى، إنما تظهر من خلال تقدم البحث، فاكتساب مزيد من المعرفة بموضوع ما يفتح الطريق أمام اكتشاف مجاهيل جديدة، تكون مناسبة لطرح أسئلة جديدة.
هذا هو تصورنا لمعنى "المشكلة"، وأعتقد أنه من الممكن التعاقد مع القارئ على هذا المعنى. كما يمكن التعاقد على معنى أضيق أو أوسع؛ ففي هذا المجال، مجال الحدود والتعريفات، ليس هناك برهان، وإنما تعاقد واتفاق بين الباحث والمتلقي (وقد يكون المتلقي هو الباحث نفسه)، فبدون هذا لا يمكن الوصول إلى برهان، فالبرهان إنما يبنى، من جملة ما يبنى عليه، على الحدود والتعريفات.
هذا عن لفظ "المشكلة" وأمرها لا يحتاج إلى مزيد بيان. أما "الإشكالية"، فهي شيء آخر.
فعلا، يستعمل كثير من الكتاب والقراء (عندنا في العالم العربي) –أو يفهمون- هذا اللفظ ونسيبه "المشكلة" من غير تدقيق، وكأنهما من الألفاظ التي يجوز أن ينوب بعضها مناب بعض (وهل هناك فعلا ألفاظ يجوز فيها ذلك بدون غرض ومبرر؟). ومهما يكن, فنحن نستعمل هنا لفظ "إشكالية" في معنى محدد –ولو أنه معقد- غير معنى "المشكلة". وفيما يلي تفاصيل عقد (تعريف) نقترحه على القارئ. ولا يخطرن بالبال أن التعريفات والحدود تصاغ كيف اتفق. كلا. ليس لأحد أن يقترح تعريفا إلا إذا كان هذا التعريف يزيدنا معرفة بالمعرف به ويفسح المجال أمامنا لمزيد من المعرفة بالموضوع الذي نبحث فيه. ولعل القارئ سيلاحظ هذا بوضوح فيما نحن يصدده.
لقد سبق أن حددنا ما نعنيه بهذا المصطلح منذ أن بدأ يشيع ويذيع في خطابنا العربي المعاصر، (قبل عشرين عاما: نحن والتراث 1980). لقد كتبنا آنذاك في هذا الموضوع ما يلي: "على الرغم من أن كلمة إشكالية من الكلمات المولدة في اللغة العربية (وهي ترجمة موفقة لكلمة problématique ) فإن جذرها العربي يحمل جانبا أساسيا من معناها الاصطلاحي. يقال: أشكل عليه الأمر بمعنى التبس واختلط. وهذا مظهر من مظاهر المعنى الاصطلاحي المعاصر للكلمة (ولكنه مظهر فقط). ذلك أن الإشكالية هي، في الاصطلاح المعاصر، منظومة من العلاقات التي تنسجها، داخل فكر معين (فكر فرد أو فكر جماعة), مشاكل عديدة مترابطة لا تتوفر إمكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل، -من الناحية النظرية- إلا في إطار حل عام يشملها جميعا. وبعبارة أخرى : إن الإشكالية هي النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر ونزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري".