موقعة وادي المخازن تحول جذري في حياة البرتغاليين.إن الجميع يعلم ما كان لهذه الموقعة من أثر بالغ في حياة الشعبين المغربي والبرتغالي وكل منهما كانت له ظاهرة خاصة وأثر خاص في حياته، فبطبيعة الحال تأثير المعركة في حياة المغاربة كان تأثير الانتصار الذي أدى الحال بتقدم الجيش المغربي نحو الأمام في فتوحاته وتوغله داخل القارة الإفريقية أما تأثيرها على الخصم فكان عكس ذلك. فبحكم المعاشرة والمساكنة مع البرتغاليين أثناء أداء واجبي الدبلوماسي في سفارة بلدي بأشبونة عرفت الكثير عن ذلك البلد، إن معركة وادي المخازن تركت في نفسه بصمات بالغة الأثر بتوارثها جيلا عن جيل، ففي يوم من أيام الله كنت مع صديق محامي من أبناء العاصمة، فتطرق بنا الحديث إلى المغرب، فسألني عن مسقط رأسي فقلت له إنني من القصر الكبير فرأيت الرجل فجأة فتح فاه وبقي مشدوها أمامي، فقلت له ما دهاك ؟ فقال لي : إن لنا أسوأ ذكرى في تاريخنا في تلك المدينة، وقد سجل كتابهم وشعراؤهم الكثير في هذا الباب نظرا للتحول الجذري الذي طرأ على حياة البرتغال بسبب هذه الموقعة في جميع نواحي حياتها ومنها على الخصوص الحياة السياسية التي بدلت البرتغال رأسا على عقب بانصهارها واندماجها في إسبانيا وفقدها لشخصيتها كدولة ذات سيادة، وأتذكر ما قرأته في صحيفة "الجيش" التي تصدر بأشبونة في عدد نوفمبر 1975 عن حياة سيبسطيان من جملة ما قالته عنه : "إن هذا الملك المغرور بشبابه أراد أن يكون إمبراطورية للبرتغال ولكنه عرضها للضياع بفقدها لاستقلالها... هكذا.
أما من الناحية الاجتماعية فقد طرأ تغيير عميق في العقلية البرتغالية في عدة مجالات ومنها مجال الأدب والفكر، فقد تكونت وظهرت إيديولوجيات ونظريات وبرزت إلى الوجود مدرسة خاصة في الأدب دعيت بالمدرسة السيبسطيانية التي سيطرت على العقول حقبة من الزمن فتكونت بهذا نهضة ثقافية واسعة النطاق، فبرزت إلى الوجود كتبا ومؤلفات، ونبغ كتاب وشعراء وفنانون في هذه المدرسة إذ وجدت العقول خصبة لتقبل ما يمر عليها بسبب النكبة التي أصابتها إذ أصبح الشعب يركن إلى الخرافات والخزعبلات ويمني نفسه بالآمال الفارغة والوعود الكاذبة التي تعطى له من طرف المشعوذين ومستغلي العقول البسطاء ونلمس هذا من خلال ما كتب في تلك الحقبة حول هذا الموضوع، وقد كتب الكثير ومما عثرت عليه في هذا الباب ما كتب عن تنبآت وأقوال هي إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة حول شخصية ضون سيبسطيان بعد المعركة والتي جعلته بمثابة المهدي المنتظر وأنه مختفي وسيظهر فيما بعد، فقد ورد في كتاب ينقض هذا الادعاء ويؤكد موته ما كتبه أماضور ربيلو في كتابه "لالاثيون ذا بيدا ذي ربي ضون سيبسطيان" علاقة حياة الملك ضون سيبسطيان ص 81 "أن شخصا يدعى بالشايور ذو أمارال من حاشية الملك الهالك والذي رافقه في حملته على القصر الكبير تعرف على جثة سيبسطيان وقد دفن بحجرة عند قائد القصر الكبير يدعى إبراهيم السياني، وقام هذا بتسليمه للشخص المذكور". إذا هذا يؤكد لنفس البرتغاليين أن ملكهم لقي حتفه بوادي المخازن ولكن بعض العناصر من الشعب وخاصة طبقة السياسيين استغلوا فرصة ولم تكن لهم غيرها سانحة حيث رأوا ضياع البرتغال واندماجها في إسبانيا وأن بلادهم قد ضيعت شخصيتها الوطنية ومجدها وكل ما تملك من مستعمرات خارج بلادها فراحوا يصلون ويجولون بين عامة الناس فهم يرون أنهم بالنسبة لإسبانيا ضعفا، أو قد أصبح كل شيء بيد الإسبان وهم المسيطرون وسادات البلاد وحكام شبه الجزيرة الإيبيرية بأكملها ومن ضمنها ممتلكات البرتغال خارجها ومنها مدينة سبتة أعادها الله إلينا.
إن أغلب التنبآت مبتكر ومخترع من رجال الدين الذي دفعهم رجال السياسة للقيام بذلك حتى يكون لعملهم هذا تأثير قوي في النفوس وعملهم فعال لذا الجمهور، إذ أصبح رجال الدين ينسبون أقوالهم وتنبأتهم إلى قديسهم يروون عنهم ما قالوه بشأن ما وقع لملكهم وأن ذلك أشير إليه في أقوالهم قبل مولده أو يوم ميلاده، وقد ألقت كتب ودواوين شعر ونبوغ في هذا الباب كتاب وشعراء في المدرسة السيبسطيانية فأصبح عصرها يزخر بآداب لـه طابعه الخاص، ومن ألمع ما اطلعت عليه في هذا الباب كتاب "سوبري أوسيباسطيانسمو" حول السيباسطيانية لمؤلفه : مونطييرو ذا فونصيكا، دون فيه عشرين تنبأ هذا عدا قصصا وحكايات تعد بالمستقبل الزاهر الذي سيأتي بعد النكبة بامتلاك إفريقيا ونشر المسيحية بها بل وامتلاك القدس أيضا، وهذه التنبآت كلها منسوبة إلى رجال الدين من قديسين وقديسات، ويقول صاحب الكتاب الآنف الذكر أنه عثر على وثيقة نادرة يرجع عهدها إلى القرن الثامن عشر حول هذا الموضوع وقد اعتمد عليها في كتابه هذا، والحقيقة أن البرتغاليين قد ضيعوا ملكهم لمدة ستين سنة باندماجهم في إسبانيا أو أدمجوا مرغمين لكنهم استفادوا ثقافيا بسبب موقعة وادي المخازن ذلك إذ أصبح للغتهم شخصية حيث ظهر فيها أدباء وشعراء وكتاب من أشهرهم كاموليس صاحب ديوان "لوثيادا" والذي يعد بمثابة ثرفانطيس عند الإسبان المشهور بكتابه "ضون كيخوطي"، وقد قيلت كثير من الأشعار وقصائد معنوية باسم "القصر الكبير" يتحسرون فيها أصحابها مما أصابهم ويعدون أنفسهم بالدخول إلى هذه المدينة من جديد منتصرين وينددون بأعمال سيبسطيان ويصفونه بشتى لأوصاف الدنيئة، ومنهم من يجعله في عداد الأبطال والقديسين إلى غير ذلك حسب ذوق الشاعر أو الكاتب وميوله السياسية أو الدينية، ويقول بعضهم في أشعاره : البرتغال جد أليمة ولكنها ستنتصر – ملك الرحالة سيسلم من النزاع ولكن لا يريد الظهور في مظهر مؤسف، ومثل هذا كثير ومتعدد الأسلوب والروايات، غير أن هذا لا يعني أن جل الشعب كان يعتقد إذ ذاك في موت ملكه يدل على ذلك ما صدر من كتابات وأشعار في هلاكه بمعركة القصر الكبير، فإن التنبآت باختفائه وعودته لم يدم وقتها فاقتصرت على ما يبدو على طبقات معينة من الشعب لمدة محدودة وهي طبقة العوام وخاصة في السنوات الأولى التي أعقبت المعركة ثم اضمحلت وظهرت على أثرها ظاهرة الأدب التي حمل اسم الأدب السيبسطياني الذي تبنته طبقة الأدباء والمثقفين والكتاب، ومن أهم الكتب في هذا المعنى كتاب بعنوان "ضون سيبسطيان أنكوبيرطو" أي سيبسطيان المقنع لمؤلفه أنطونيو ماشا ضربريس الذي يقول إنه في عام 1598 ظهر شخص في مدينة فينيسيا بإيطاليا أي كان إذ ذاك كثير من المهاجرين البرتغاليين يدعى أنه سيبسطيان وراجت هذه الشائعة في أوربا وأحدثت حماسا في أوساط البرتغاليين المهاجرين ولكن سرعان ما انتهى أمره، كما يقول صاحب الكتاب المذكور أن بعض التنبآت غالبا ما كانت تصدر عن أشخاص من الحاشية الملكية أو من خدام البلاط فيصدقونهم العوام لقربهم من الملك حيث يكونون مطلعين على دواخل القصر، وما يحكى في هذا المعنى أن شخصا كان مكلفا بمخازن الملك سيبسطيان ومعروف في الأوساط بأنه يتنبأ وله قدرة روحية وغالبا ما تصدق تنبآته كانوا يدعونه بنبي الأسوار (ولا أدري لماذا فصاحب الكتاب نفسه لم يبين ذلك) وكان هذا الرجل في الأيام المقدسة وخاصة المواسم الدينية يجمع الأطفال ويذهب بهم إلى مكان قديسة ويقص عليهم قصصا وخرافات، وتنبأته منها عودة الملك سيبسطيان، وكان من جملة ما يقول لهم، إن الملك سيختفي في باربريا (أي المغرب) وسيتغيب عن مملكته وعن غيرها أيضا، وسيتسلم ملكه في المستقبل من ملك قشتالة ولكن هذا بعد أعوام كثيرة يعود ويملك ويحتل باربريا (المغرب) والقدس وممالك كثيرة، وأخذت عنه هذه التنبآت ودونت من طرف من يوقف بهم، كما يقول صاحب كتاب " علاقة المكل ضون سيبسطيان" عن هذا الرجل أيضا، كان يتردد إلى الديوانالملك ليؤكد بأن الملك مازال حيا، ومثل هذه الأخبار كانوا ينسبونها إلى رجال الدين وخاصة القابعين في الأديرة والمعابد والمنقطعين عن العالم الخارجي وإن كانت هذه التنبآت المكذوبة تختلف في رواياتها ولكنها في الأول كلها كانت تحوم حول الاختفاء وعودته لطمأنة العوام، إن هذه التنبآت المكذوبة لم تصدق بعدما سلمت جثة الملك من طرف مسؤول رسمي بمدينة القصر الكبير يدعى إبراهيم السفياني ورجال من حاشية سيبسطيان المهزوم، فقد كتب عن هذا القائد السفياني مؤلف إسباني يدعى امبرطو كورطاثيروهيناريس في كتابه "القصر الكبير" من مطبوعات معهد الجنرال فرانكو للدراسات والأبحاث الإسبانية العربية بتطوان في صفحة 128 أن إبراهيم السفياني كان من القواد المرموقين عند عبد المالك السعدي جند نحو ستة عشر ألفا من المتطوعين المجاهدين للدفاع عن مدينة القصر الكبير، ولكن نهايته كانت على يد أعدائه الذين سمموه فقتل، ومن أهم الكتب التي صدرت عن سيبسطيان والتي تعد من ألمع المراجع عن حياته ونواياه وما كان يضمره من عداء للإسلام كتاب لمؤلفه الأكاديمي خوالين فريسيمو سراو من الحجم الكبير يتكون من جزأين الجزء الأول يحتوي على 265 صفحة والثاني من 297 صفحة قامت بطبعه أكاديميا البرتغالية للتاريخ، جمع مؤلف هذا الكتاب كل المذكرات التي كان يكتبها أحد حاشية الملك المرافقين له من سنة 1568 إلى 1578 فكان يدون حركات الملك باليوم والشهر والسنة إلى يوم وفاته بالمعركة.
وعلى أي حال فإن الوضع بعدما تغير وانفصلت البرتغال عن إسبانيا من جديد وكونت لنفسها دولة خاصة بها مرة ثانية أصبحت لها لغة قائمة الذات كجارتها إسبانيا إذ لولا موقعة وادي المخازن لما حصلت على هذه الفائدة ولما أصبحت في العالم لغة تسمى اللغة البرتغالية حتى صارت بعض شعوب الأرض تتكلم بها فأصبحت في مصاف الدول التي لقنت لشعوب خارج قارتها لغتها كالعربية والفرنسية وغيرهما، فإذا نظرنا بعين الواقع نجد أن هذا التحول الجذري في البرتغال أعطاها شخصية في المستقبل والأمة تكون لها شخصيتها أيضا لغتها إذا انتشرت، أقول أن الفضل في هذه المعركة وادي المخازن وكم من نقمة في طيها نعمة، وهكذا نرى المغرب برجاله الأفذاذ يصنع التاريخ ويحول مجراه لنفسه ولغيره من الأمم، وهكذا نرى من حين لآخر يقيض الله للمغرب رجالا مخلصين مؤمنين لينقذوه من العثرات وليسيروا به إلى الأمام وقد شاهدنا هذا بالعين المجردة في وقت حسننا الثاني الهمام ينقذ أرضا للإسلام كانت بحق تعد قطعة مملوكة لغير المسلمين كانت تدعى بالصحراء الإسبانية وذلك بفضل الله قيض لها رجلا حكيما حباه الله الحكمة وفصل الخطاب، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.