التغير التقني
كان تقطيع الأشياء القاسية يتم بالفؤوس اليدوية طوال عشرات الألوف من السنين، وهي سواطير حجرية تمسك بقبضة اليد وتشحذ أطرافها بنزع شرائح عنها. ولقد ظلت الأدوات النيوليتية حجرية، ولكنها كانت أنعم وكانت شفراتها تشحذ وتصقل على حجارة أخرى أقسى. كما أن الشفرات صارت تثبت بمقبض وقد زاد هذا من قوة القطع التي كانت قد تحسنت قبل ذلك بتحسن شكل الحجارة وصقلها. وقد ثبت ببعض الفؤوس الحجرية النيوليتية مقابض حديثة وجربت في الغابات وتبين أنها أدوات قوية للغاية وذوات عمر طويل أيضاً، لأنها عندما تثلم يمكن شحذها من جديد بنفس العملية التي صنعت بها. وكانت هذه أداة عظيمة الأهمية للزراعة، لأنها سهلت إزالة أشجار الغابات ونباتاتها من أجل زراعة المحاصيل. ومن بعدها جاءت الجواريف الحجرية من أجل حراثة الأرض، كان تغير تقنية الحجر إذاً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بثورة إنتاج الغذاء، ومع أننا لا نعلم بالضبط تسلسل الأسباب والنتائج فإن العلاقة بين الاثنين أمر واضح.
إن هذه التطورات الكثيرة والمترابطة في حياة الإنسان خلال الحقبة النيوليتية تبرر اعتبارها مرحلة حاسمة في قصة البشرية، لقد استغرقت تلك التغيرات خمسة أو ستة آلاف سنة، وكانت نتيجتها الإجمالية أكبر تسارع في التطور الاقتصادي والاجتماعي قبل مجيء طاقة البخار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد. فإضافة إلى إطعام عدد أكبر من الناس، صار بالإمكان إطعامهم من دون أن يشاركوا في عملية تنمية الغذاء وإحضاره. ربما كان هناك بعض المختصين في أزمنة أبكر، ولكن التخصص الاقتصادي والتقني صار أكثر احتمالاً وأسهل بكثير من اختراع الزراعة. وضمن تلك الجماعات الأكبر والأكثر استقراراً صار هناك عدد أكبر من الحرفيين، الذين يقومون بأعمال مثل صنع الأدوات والأغراض المزينة، ويأخذون مقابلها ما يلزم لمعيشتهم من غيرهم، وكان بعض أنشطتهم ذات أهمية كبيرة في إحداث فروق جديدة في حياة الأفراد بعضهم عن بعض، وفي تحقيق اكتشافات تقنية جديدة أيضاً.
من تلك الاكتشافات اكتشاف الفخار، ربما صنع الفخار للمرة الأولى في اليابان عام 10.000 ق.م، ولكنه كان واسع الانتشار في الهلال الخصيب بعد بضعة آلاف من السنين. كانت الأوعية المصنوعة من الخشب وربما من الحجر أيضاً مستخدمة في أزمنة أبكر، ولكنها صارت أكثر ضرورة بقدوم الزراعة وإمكانية تخزين الطعام. لقد لاحظ بعضهم، ربما صدفة، أن معاملة الطين بالنار تبدل من طبيعته، فصار بالإمكان صنع الأوعية بأسرع وأسهل بكثير، ومن ثم صار من الممكن الطبخ بطريقة مختلفة، وزيادة تنويع الأطعمة، عدا عن تخزين الطعام، والتخفيف من عناء تأمينه. كما أن الخزف يمكن تزيينه بسهولة إما بتلطيخه بالألوان أو بتغير شكله، فقدم بذلك وسيلة جديدة للفن، ولو أنه بقي فظاً لزمن طويل. وقد نتجت عن هذا كله سلسلة واسعة من النتائج. كان النسيج المحبوك اختراعاً نيوليتياً آخر، كان الناس يرتدون التنانير منذ آلاف السنين، وربما بدت ملابسهم في أفضل الأحوال مثل الملابس التي كان يرتديها هنود أمريكا الشمالية في القرن الماضي ، أو الأسكيمو في القرن الحالي ويمكن اعتبار هذين الشعبين من شعوب العصر الحجري حتى وقت قريب، أما في الأزمنة النيوليتية فقد ظهرت أولى المواد المحبوكة أي الأنسجة في الشرق الأدنى. تدل الزراعة والفخار والأنسجة وحدها على تغيرات واسعة خلال بضعة آلاف من السنين، لقد كانت تلك المرحلة بحق تمهيداً لحضانة المرحلة التالية من تطور البشرية، وهي المرحلة التي مازلنا نعيش فيها، أي حقبة الحضارة. ولكن العصر النيوليتي لا يقتصر على هذه التغيرات، بل حدث فيه تغير آخر يمتد إلى عصر الحضارة، لهذا لا يعتبره بعض العلماء جزءً من العصر النيوليتي، ألا وهو استخدام المعادن.
بالتوفيق للجميع ...