الثقافة الشعبية معرفة واستلهام
جمة هي التساؤلات التي تثار حول الاهتمام بالثقافة الشعبية منهجا ووسائل وغايات. فالأمر يبدو لبعض الناس مجرد بذخ تدعو إليه الدعة والترف والاهتبال بالذات. ويبدو للبعض الآخر وثيق الصلة بالهوية يدعم أركانها ويمنع حصونها عن عوامل التجاذب والتهافت والانفلات. والقضية في تقديرنا أعمق من ذلك وأبعد مدى من ذاك. إذ هي تنصب في صميم تنمية الإنسان والرقي بمختلف أسباب وجوده ضمن انتظام يبني الحاضر ويرسم أفق المستقبل احتكاما إلى وسائل العصر واهتداء بمنارة يشع نورها من أعماق الماضي. فقد ولى عصر حسب فيه غير قليل من الناس أن التطور والرقي الاجتماعي وولوج عصر الحداثة لا يمكن أن يكون إلا على أساس قطيعة مع الماضي واندثر رأي يذهب إلى وجوب الاقتصار على ما أفاد منه الأجداد دون تجاوزه إلى ما عداه من معارف وعلوم.
إن الثقافة الشعبية جزء منا، شرخ من هويتنا، وقطعة من وجودنا لا يمكن أن نتصور تقدما ولا تطورا دون الحفاظ عليها والتمسك بها وتوفير كل أسباب السيرورة لها دون أن يفوتنا أن الحياة ليست قرارا ثابتا وإنما هي استحالة أبدية وامتداد في الارتقاء. لذلك نرى أن الاهتمام بالتراث الشعبي لا يكون في رأينا مجديا ما لم نعمق فهمنا لآليات حضوره فينا وتشكيله لوجداننا. إن التراث الثقافي الشعبي واحد لا يتغير ولكن وظائفه تتطور وتتجدد وينبجس بعضها من بعض بحكم تغير العوامل والظروف مما يقوم دليلا على ثرائه الخلاق.
إن قراءتنا للثقافة الشعبية على أسس من النظريات المعرفية والعلمية التي لا تعرف هي الأخرى سكونا ولا ثباتا وإنما هي تطور دائب ومراجعة لا تقف عند حد، تكشف عن طبيعة حضورها فينا وأنحاء تأثيرها في أرواحنا وعقولنا وسلوكنا. في هذا السياق جاء المنتدى الثالث متعلقا بتدريس الثقافة الشعبية ودراستها باعتبارها عنصرا في التنشئة وموضوعا للبحث والنظر وإعمال العقل. ومن هذه الزاوية أيضا جاءت الدعوة في آفاق هذا العدد إلى استلهام التراث الشعبي في الأعمال الإبداعية وعيا بأنه مكون أساسي في هويتنا، نطق بخصوصيتها على نحو ما من الإبداع. فظل خالدا فينا باقيا من خلالنا يعرب عن عظمة الإنسان في معاناته من أجل أن يخط مصيره في الوجود. وهل الإبداع إلا معاناة من أجل التغني بتجربة الإنسان في الحياة فكيف لا يكون التراث فسحة المبدع يلجها مستلهما إبداع الجماعة التي لا يرنو الفنان إلا إليها في كل ما يبدع.