غريبان -قصة قصيرةغريبان -قصة قصيرة-
كنت هناك في أعلى تلك البناية الجميلة حيث أتناول فطوري تحيط بي الأزهار و الورود المصففة بعناية و بلمسة شاعرية ، تعودت أن آتي إلى هنا في الساعة ذاتها حاملا معي قلمي و دفترا صغيرا . قليلون هم أولئك الذين يرتادون هذا المكان في مثل هذا الوقت المبكر باستثناء من حببت إليه الخلوة مثلي ، غالبا ما كنت أجد هنا شخصا أو شخصين على الأكثر ، أحدهما رجل قوي البنية بشاربين مفتولين كأنني به استعارهما من حقبة الإمبراطورية العثمانية ، كان يجلس في ركن قصي يدخن سيجاره الكوبي ، قلما كان يلتفت يمنة أو يسرة ، لكن رغم هدوئه المصطنع كنت شبه متأكد أنه رجل بطباع فظة . الشخص الثاني الذي اعتدت حضوره هنا كانت امرأة أربعينية بملامح أمازيغية جميلة كان حضورها يكسر سكون المكان فكلبها الذي يبدو أشبه بكومة من الخيوط الصوفية لا يكف عن النباح ، كان ذلك مزعجا جدا لي لكنها بدل أن تحاول تهدئته تنشغل طوال الوقت في مكالمات هاتفية لا تنتهي ، كان صوتها مسموعا و كذا صوت من تخاطب ، كل حواراتها تمحورت حول عالم الأزياء و الموضة و آخر أنواع الماكياج الراقي ...
بدا الأمر اليوم مختلفا فلا أثر للرجل ذي الشاربين و لا للمرأة صاحبة الكلب المزعج ، وجدتها فرصة سانحة فأخذت قلمي و بدأت أخط بعض الكلمات التي تبادرت إلى ذهني فانتعشت مخيلتي و توالت الأفكار و الخواطر حتى ضاقت أولى الصفحات بما سوده القلم .
و أنا في غمرة مخاض الكتابة خيل لي أن شيئا أو أحدا مر بقربي ، رفعت رأسي فإذا هي زائرة غريبة لم أتعود حضورها ، بدت مضطربة قليلا فكانت تتحرك جيئة و ذهابا على طول الشرفة ، وضعت قلمي و انشغلت بتتبعها ، تساءلت عما يقلقها إلى هذه الدرجة و في هذا الصباح الربيعي الجميل .
لم يطل الأمر كثيرا حتى اقتحم المكان زائر آخر توجه مباشرة نحوها ، وقفا جنبا إلى جنب ، هدأ روعها فصارت أكثر وداعة ، في حين بدا عليه الغضب الشديد لكنه سرعان ما هدأ هو أيضا ، اقتربت منه أكثر فأكثر ، كان واضحا أنهما لم ينتبها لوجودي ، أسعدني ذلك فرحت أرتشف من قهوتي شيئا قليلا بهدوء تام ، لكن الملعقة اللعينة أبت إلا أن تسقط على الأرض محدثة ضجة كبيرة . كان ذلك كافيا لينهي الأمر و يدفع الزوجين الجميلين للتحليق عاليا مسلمين أجنحتهما للريح .