المسببات والوقاية
إن العديد من مسببات السرطان الرئيسية الأكثر شهرة، ليس في واقع الأمر مسؤولا إلا
عن عدد قليل نسبيا من الوفيات. والأخبار الجيدة في هذا المضمار هي
أننا نستطيع عمل الكثير لحماية أنفسنا.
وثمة مجال دراسة متنام (الوقاية الكيميائية) تسعى
الجهود فيه إلى جعل هذه المهمة أيسر.
المحتويات
ما الذي يسبب السرطان؟
26
لماذا يتم في كثير من الأحيان تجاهل تجمعات حالات السرطان؟
32
استراتيجيات لتقليل خطر السرطان
35
الوقاية الكيميائية من السرطان
42
موضوع مختلف حوله
أخطار المعالجة بالهرمونات
46
ما الذي يسبب السرطان؟
إن التدخين ونمط التغذية يأتيان على رأس مسببات السرطان، إذ يتسببان في حدوث
نحو ثلثي مجموع وفيات السرطان، ويُعَدّان من أكثر العوامل المسرطنة قابلية للتصحيح.
ـ ـ
إن السرطان، وهو قاتل رئيسي عبر تاريخ البشرية، كان يغير قبضته تبعا للتقدم الذي يحرزه الإنسان صناعيا وتقانيا. ومع أن هذا القرن حمل معه تراجعا حادا في خطورة القليل من أنواع السرطان في البلدان المتقدمة، فقد ازداد معدل حدوث الغالبية العظمى من السرطانات الرئيسية. ففي البلدان التي شهدت ارتفاعا في عوامل خطر الإصابة بالسرطان، مثل التدخين والعادات الغذائية غير الصحية والتعرض في العمل أو في البيئة للمواد الكيميائية الضارة، أصبحت سرطانات الرئة والپروستاتة (الموثة) والثدي والقولون والمستقيم أكثر شيوعا.
ومع انتشار التصنيع ازدادت الأسباب المحتملة لحدوث السرطان. كما ازدادت في السنوات الأخيرة التحذيرات المتعلقة بجميع أساليب الرفاهية الحديثة، من الأدوية وحتى الهواتف الخلوية (النقالة) cellular telephones. فتسارُع إيقاع التطور التقاني الحالي يحتم علينا تمييز العوامل المسببة فعليا للسرطان من بين المجموع المتزايد من الاحتمالات.
وفي هذه المهمة الشاقة، يعتمد الباحثون بشكل كبير على علم الوبائيات epidemiology؛ فمن خلاله يتم تعرّف بعض عوامل الخطر الشائعة في سِيَر حياة ضحايا السرطان لتقييم هذه العوامل ضمن سياق مفاهيمنا البيولوجية الحالية. وفي نهاية المطاف قد ترشد الدلائلُ الباحثين إلى أن واحدا أو أكثر من هذه العوامل «يسبب» السرطان ـ أي إن التعرض لأحد هذه العوامل يزيد زيادة مهمة احتمال الإصابة بالمرض.
خلال نصف القرن الماضي، مكّن علمُ الوبائيات الباحثين من تعرّف العديد من المسببات البيئية غير الوراثية noninherited للسرطان، بل وحتى حساب المعدل السنوي لوفيات السرطان الناجمة عن كل منها. وعلى الرغم من أن ما تم التوصل إليه لن يمكّننا من التنبؤ بما سيحدث لنا كأفراد، فإنه يوفر معلومات مفيدة إجمالا للذين يهمهم التقليل من تعرضهم للعوامل المسببة للسرطان، أي المسرطنات carcinogens.
لقد تبين أن السرطان ينشأ عن تأثير نوعين مختلفين من المسرطنات. ويتضمن أحد هذين النوعين العوامل التي تصيب الجينات (المورثات) وتؤدي إلى إفلات الخلية ونسائلها descendants من الضوابط الطبيعية للانقسام والهجرة. وينشأ السرطان عندما تتعرض خلية ما، وعلى مدى سنين عديدة، إلى عدد من هذه الطفرات (التغيرات الجينية) mutations، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تخلصها من جميع ضوابط الانقسام proliferation. وتتيح هذه الطفرات حصول تغيرات إضافية في الخلية ونسائلها مؤدية إلى تراكمها بأعداد كبيرة، لتشكل ورما tumor يتألف بمعظمه من هذه الخلايا الشاذة. أما النوع الآخر فيتضمن العوامل التي لا تؤثر في الجينات وإنما تزيد بشكل انتقائي من نمو الخلايا الورمية أو أسلافها precursors. ويكمن الخطر الأساسي للخباثات malignancies في قدرتها على تشكيل نقائل ****stasize، تُمكّن بعضَ خلاياها من الهجرة، وبالتالي نقل المرض إلى أجزاء أخرى من الجسم. وفي النهاية، يمكن أن يصيب المرض أحد أعضاء الجسم الحيوية ويعطل وظائفه [انظر في هذا العدد: «كيف ينشأ السرطان»].
لم يكن هناك أي شك لدى الباحثين بأن التعرض المتكرر لجزء من أجزاء الجسم إلى عوامل كالمواد الكيميائية الموجودة في دخان التبغ، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى إصابة خلوية تؤدي إلى السرطان، إلا أن تفاصيل حدوث هذه الإصابة لاتزال مبهمة. وتشير النظرية السائدة إلى أن الضغوط البيئية والكهولة وسيرورات حياتية أخرى، تؤثر عن طريق زيادة تَشَكُّل ما يُدعى بالجذور الحرة free radicals ـ التي هي عبارة عن كِسَر fragments كيميائية فعالة من الجزيئات. ومن خلال تفاعلها مع الدنا الجيني، تؤدي هذه الكِسَر إلى تخريب وحدوث طفرات دائمة في الجينات، في حين تعمل مسببات السرطان الأخرى كالڤيروسات بطريقة مختلفة تماما، وذلك من خلال تسريع معدل الانقسام الخلوي.
وبالطبع، فإن للجينات الموروثة من الأبوين دورًا في حدوث السرطان. فالبعض يولَد بطفرات تساعد بشكل مباشر على النمو المفرط لخلايا معينة أو على تشكيل عدد أكبر من الطفرات. ويعمل الضغط الانتقائي (الانتخابي) على إبقاء هذه الطفرات في حدها الأدنى؛ فهي مسؤولة عما يقل عن 5% من السرطانات القاتلة. (إن الجينات المعروفة بإحداثها للسرطانات البشرية الوراثية قد أُدرجت في جدول بالصفحة 34).
من جهة أخرى، إن معظم الخصائص الفيزيولوجية العامة الموروثة، بخلاف الطفرات التي تصيب الجينات المنظِّمة لنمو الخلايا، تسهم إلى حد ما في الغالبية العظمى من السرطانات. فعلى سبيل المثال، وراثة البشرة الفاتحة تجعل الشخص أكثر قابلية للإصابة بسرطان الجلد. ومع ذلك فإن ظهور المرض عند ذوي البشرة الفاتحة يحدث فقط بعد التعرض الشديد لأشعة الشمس (أي للعامل البيئي المسرطن) وأيضا، إذا ما ورث شخص نمطا جينيا طبيعيا يجعل حامله أقل قدرة على التخلص من عامل مسرطن معين، فإن هذا الشخص ـ بعد تعرضه المتكرر للعامل المسرطن ـ يكون أكثر عرضة للإصابة بالسرطان من أقرانه الحاملين للنسخة الأكثر كفاءة من هذا الجين.
إن أحد الأسئلة الشائعة حول السرطان يتعلق بمعرفة عدد الحالات التي يتوقع أن تنشأ بشكل طبيعي عند الأصحاء الحاملين لجينات طبيعية، والذين أمكنهم بشكل ما من تجنب جميع المسرطنات البيئية. وقد أمكن التوصل إلى تقدير تقريبي فقط لعدد تلك الحالات، وذلك من خلال مقارنة مجموعات لها أنماط سرطانية مختلفة تماما. إن نحو ربع حالات السرطان تكون متأصلة وراسخة، أي إنها قد تنشأ وتتطور حتى في عالم خال تماما من المؤثرات الخارجية، وذلك بسبب تشكل المواد المسرطنة داخل الجسم وحدوث الأخطاء الجينية غير المُصَحَّحة.
يمكن للطعام الدسم، كهذا الذي يجري تناوله في هذا المطعم النيويوركي، أن يسهم في العديد من السرطانات.
ومع ذلك فقد بيَّن علماء الوبائيات أن البيئة، بما فيها العوامل المتعلقة بنمط الحياة، تؤدي دورا كبيرا في معظم الحالات. فما مصداقية هذه البيانات (المعطيات)؟ إن الحلقة الضعيفة في وبائيات السرطان هي أنه لأسباب أخلاقية لا يمكن القيام بالدراسات على مجموعات بشرية مختارة بشكل عشوائي وتعريضها لعوامل مسرطنة محتملة أو حتى لمركبات قد تقي من السرطان، الأمر الذي يعقِّد بصورة بالغة عملية استقراء تلك البيانات.
وبالتالي، يمكننا أن نعتبر أن الدراسات الوبائية قد حددت مُسَبِّبًا للمرض فقط عندما تتكرر في مجموعة مصابة بسرطان معين قصةُ تعرّضٍ غير عادي لعامل معين بشكل مستمر. وبعبارة أخرى، إن علاقةً سببيةً يمكن أن تُستنتج عندما تُسجَّل بشكل ثابت وفي حالات متنوعة صلةٌ (حتى وإن كانت ضعيفة) بين عامل ما وأحد أشكال المرض، مع توافر تفسير بيولوجي مُرْض.
لذلك، فقد بنينا تقييمنا للأدلة حول مسببات السرطان على أساسين؛ الأول يعتمد على وجود بيانات وبائية قوية جدا مع غياب تفسير بيولوجي دقيق، والآخر يعتمد على وجود صلة ضعيفة إنما ثابتة ومدعومة بتفسير بيولوجي بيّن. فعلى سبيل المثال، دور الخضراوات والفواكه في الوقاية من السرطان ينتمي إلى الفئة الأولى، في حين ينتمي تقييم القدرة المسرطنة للتدخين السلبي إلى الفئة الأخرى: إذ يصاب فقط بعض الناس المعرَّضين للتدخين السلبي بسرطان الرئة، إلا أن الصلة بين السببين تظهر بشكل ثابت ولها تفسير مقنع.
تمثل البيانات الواردة في هذه المقالة خلاصة منتقاة من مئات الدراسات، ويشاركنا في الآراء المعروضة هنا معظم الباحثين وإخصائي الصحة العامة الآخرين، إن لم يكن جميعهم. وحسب الممارسة السائدة في وبائيات السرطان كان اهتمامنا منصبًّا على السرطانات القاتلة أكثر من سائر الحالات الأخرى للسرطان، وذلك لتجنب التشويش الناتج من السرطانات الشائعة والتي نادرا ما تصبح قاتلة. تبقى البيانات التي نناقشها هنا صحيحة بالنسبة للولايات المتحدة وسائر الدول الصناعية إلا إذا أشرنا إلى غير ذلك. ويختلف الوضع في البلدان النامية، حيث يزداد احتمال الإصابة بالسرطانات المتسببة عن عوامل مُعدية (خمجية) أو مسرطنات مهنية.
دخان التبغ هو المسرطن الأول
إن التدخين ونمط التغذية مسؤولان عن نصف حالات وفيات السرطان في الولايات المتحدة، وربما حتى %60 من هذه الحالات. يسبب التدخين %30 من وفيات السرطان، مما يجعل من دخان التبغ القاتلَ الأول بين المسرطنات في الولايات المتحدة. وفيما عدا التدخين ونمط التغذية، تسهم العوامل البيئية الأخرى بنسبة ضئيلة من مجمل وفيات السرطان.
يسبب التدخين (السگائر بشكل خاص) كلا من سرطان الرئة وسرطان الطرق التنفسية العلوية وسرطان المريء وسرطان المثانة وسرطان الپنكرياس (المعثكلة) وربما حتى المعدة والكبد والكليتين. ويبدو أن للتدخين دورا في ابيضاض الدم النقوي المزمن chronic myelocytic leukemia، كما يحتمل أن يسبب سرطان القولون والمستقيم وأعضاء أخرى. وتعتمد قدرة التدخين على إحداث الخباثة malignancy على عدة عوامل، تتضمن عدد مرات التدخين وكمية القطران في السگائر ـ والأهم هو مدة استمرار هذه العادة. فمزاولة التدخين منذ سنٍ مبكرة يزيد من الخطورة بشكل واضح. وتختلف الخطورة بحسب نوع السرطان؛ فمعدل إصابة المدخنين بسرطان المثانة bladder cancer هو ضعف المعدل العادي، في حين أن معدل إصابتهم بسرطان الرئة lung cancer هو ثمانية أضعاف المعدل الطبيعي.
إن التدخينَ السلبي، أي استنشاق دخان السگائر المنتشر في البيئة، يسبب سرطانَ الرئة بنسبة أقل من التدخين الفعلي. ومع ذلك، يموت عدة آلاف من الناس كل عام في الولايات المتحدة بسبب السرطانات الناجمة عن التدخين السلبي. وهكذا، فالتدخين السلبي يقتل تماما مثل الهواء الملوَّث أو مثل التعرض المنزلي لغاز الرادون المشع radioactive gas radon (الذي ينطلق من الأرض بشكل طبيعي في بعض المناطق).
الأكل الصحيح يطيل الأعمار
تعتبر التغذية(1) المنافس الوحيد لدخان السگائر كمسبب للسرطان في الولايات المتحدة، إذ تسبب أعدادا مشابهة من الوفيات في كل عام. تترافق الشحوم (الدهون) الحيوانية المشبعة animal saturated fat، في اللحم بشكل عام واللحم الأحمر بشكل خاص، مع عدة أنواع من السرطانات؛ فكلا النوعين من اللحم وثيق الصلة بسرطانات القولون والمستقيم وأيضا سرطان الپروستاتة.
ما زال الغموض يكتنف بعض جوانب موضوع دُهْن (دسم) الطعام. فقد أظهرت التجارب على الحيوانات أنه تحت شروط خاصة تزيد بعض أنواع الدهون المتعددة اللاإشباع poly-unsaturated fat من خطر الإصابة بالسرطان في أمكنة معينة من الجسم، إلا أنه ليس لدينا إلا القليل من الدلائل على أن هذه البيانات تنطبق على البشر أيضا. كما لم تستطع الدراسات الوبائية المكثفة أن تؤكد بعض النظريات المبكرة التي ما زالت شائعة حول علاقة السرطان بدهن الطعام. فعلى سبيل المثال، أظهرت معظم الدراسات التي تابعت مجموعة كبيرة من النساء البالغات خلال اثني عشر عاما، أن الوارد العالي من الدهن (الحيواني بشكل رئيسي) لا يزيد من خطر الإصابة بسرطان الثدي breast cancer.
الميكروبات المسببة للسرطان
لقد مضى أكثر من مئة عام على بداية اهتمام الباحثين بالڤيروسات والعوامل المُعدية (الخمجية) الأخرى باعتبارها من العوامل المحتملة المسببة لبعض الأورام السرطانية. وخلال العقود التالية فشلت جميع محاولات التحقق من هذه النظرية. فقد وُجد أن إدخال أنواع مختلفة من العوامل المُعدية إلى جسم الحيوانات يؤدي عادة إلى إصابتها بالسرطان. وبالتدريج لم تعد هذه النظرية موضع قبول.
ومع ذلك، فخلال العشرين سنة الماضية، لم تقتصر التحريات على إثبات أن أنواعا كثيرة ومختلفة من السرطانات تنجم فعلا عن الڤيروسات والبكتيريا (الجراثيم) والطفيليات، بل أوضحت أيضا احتمال أن %15 من وفيات السرطان في العالم تنجم عن هذه العوامل. وتحدث الغالبية العظمى من هذه الحالات في البلدان النامية، حيث تشيع الأمراض السارية communicable diseas. وحتى في البلدان المتقدمة كالولايات المتحدة، فإن %5 من وفيات السرطان تنجم عن الأمراض المعدية. وكان من الصعب جدا تحديد الأعداد بدقة؛ لأن العدوى عادة ما تستغرق عدة عقود حتى تؤدي إلى نشوء السرطان.
وأكثر العوامل الممرضة المسببة للسرطان شيوعا هي الڤيروسات الدناوية DNA viruses، التي تنتشر وتتكاثر بغزو الخلايا الحية لعائل (ثوي) host وبتسخير الدنا وآلية تصنيع البروتين الخاصة بهذه الخلايا لتوليد نسخ من ذاتها. ومن بين هذه العوامل المسرطنة، النمطان 16 و 18 من الڤيروس الحليمي البشري human papillomaviruses اللذان ينتقلان عن طريق الاتصالات الجنسية. وهناك أيضا ڤيروس التهاب الكبد الإنتاني B الأكثر أهمية. يسبب الڤيروس الحليمي سرطان عنق الرحم أما ڤيروس التهاب الكبد فيسبب سرطان الكبد.