تعرف اللسانيات linguistics (وتسمى أيضا الألسنية، وعلم اللغة) بأنها "الدراسة العلمية للغة" تمييزا لها عن الجهود الفردية، والخواطر، والملاحظات التي كان يقوم بها المهتمون باللغة عبر العصور. ومن الشائع في تاريخ البحث اللغوي أن الهنود، والإغريق كانت لهم اهتمامات باللغة منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة. وكثيرا ما يشير مؤرخو البحث اللغوي الغربيون إلى جهود الهنود، والإغريق، ولكنهم يغفلون جهود العرب، والمسلمين في هذا المجال.وكما يعلم الكثير من دارسي العربية، فقد تمكن النحاة العرب من وصف العربية، ووضع قواعدها الصرفية، والنحوية، ووصفوا أصواتها، وشرحوا نظامها الصوتي، وألفوا المعاجم، وكتب اللغة المختلفة. ولعلّ أبرز الإنجازات التراثية في مجال اللسانيات ذلك الإسهام البارز للأصوليين في تحليل الخطاب، والتمييز بين أنواع مختلفة من الدلالات، والتعرض للأصول التخاطبية، والمفاهيم الخطابية الاستنتاجية، والأسس التي تستند إليها.
ويرى بعض المؤرخين أن نشأة اللسانيات بدأت في القرن الثامن عشر مع وليم جونز William Jones الذي لاحظ شبها قويا بين اللغة الإنجليزية من جهة، واللغات الآسيوية والأوروبية من جهة أخرى بما في ذلك اللغة السنسكرتية Sanskrit، وهو ما دعاه إلى استنتاج وجود صلة تاريخية، وأصل مشترك بينها. وأدى ذلك إلى الاهتمام بالمنهج التأثيلي etymological الذي يتوسل به في معرفة الصلة بين اللغات، وتطوراتها التاريخية.
وفي بداية القرن العشرين أخذ البحث اللغوي طابعا علميا على يد اللغوي السويسري فرديناند دو سوسور Ferdinand de Saussure (1857-1913) الذي لقب بأبي اللسانيات الحديثة. وعلى الرغم من أنّ اهتمامه طيلة حياته العلمية كان منصبا على اللسانيات التاريخية، فقد كان للفصل الذي خصصه للدراسات التزامنية في آخر حياته أثر جذري في اللسانيات الحديثة، وقد حال الموت دون نشر هذا العمل، فقام اثنان من زملائه، وهما تشارلز بالي Charles Bally، وألبرت شيشهية Albert Sechehaye بجمع المحاضرات التي كان يلقيها على طلابه بالاستعانة بما دوّنه هؤلاء الطلاب، وما تركه دو سوسور من مذكرات، ونشراها في كتاب بعنوان (محاضرات في اللسانيات العامة (Course de Linguistique Generale، وقد عد هذا الكتاب ثورة في الدراسات اللغوية.
وواكب توجيه دو سوسور اهتمام اللغويين إلى أهمية المنهج التزامني في دراسة اللغة ظهور أحد الإناسييين anthropologists في أمريكا، وهو فرانز بواز Franz Boas الذي أرسى دعائم المنهج الوصفي في اللغة. لخّص بواز منهجه في مقدمة كتابه (دليل اللغات الهندية الأمريكية Handbook of American Indian Languages)، وكان له فضل على كثير من اللسانيين الأمريكيين الذين جاءوا بعده. وقد عني الأمريكيون في تلك الفترة بدراسة لغات السكان الأصليين للقارة الأمريكية التي كانت معرضة للانقراض، واتسم منهجهم في دراسة تلك اللغات بالنظر إليها على أنها أنظمة مستقلة عن غيرها.
ومن اللسانيين البارزين في مجال صبغ الدراسات اللغوية بطابع العلمية اللساني الأمريكي ليونارد بلومفيلد Leonard Bloomfield (ت 1949). الذي عُدّ أول الداعين إلى اتباع منهج موضوعي في دراسة الظواهر اللغوية، وأملى عليه التزامه بالمدرسة السلوكية أن يبعد الكثير من المناهج التي تعتمد على الوسائل الذاتية في دراسة اللغة كالاستبطان introspection، ونحوه. ودعا إلى التوسع في جمع المادة اللغوية المدروسة، وإخضاعها إلى تحليل علمي منظم.
وقد وجّه ناعوم تشومسكي Noam Chomsky، وأتباعه نقدا حادا إلى المدرسة السلوكية، ذاهبا إلى القول بأنه مهما توسعنا في جمع المادة اللغوية فليس بإمكاننا أن نعرض لكل تركيب لغوي؛ لأن المتكلمين قادرون على تأليف تركيبات لم يسبق لهم أن سمعوها من قبل. وعلينا –بناء على ذلك- أن نوجه اهتمامنا إلى مقدرة المتكلم التي تتيح له هذا الإبداع اللغوي، وليس إلى الجمل اللغوية نفسها. وبذلك بدأ الاهتمام بأسس النظام اللغوي التي تفسر قدرة المتكلم على استخدام عدد غير محدود من الجمل اللغوية اعتمادا على عدد محدود من الأسس، والقواعد اللغوية. وهكذا أعاد الاعتبار لبعض وسائل البحث التي استبعدها السلوكيّون كالاستبطان، والحدس؛ إذ بهاتين الوسيلتين يمكن للباحث، والمتكلم السليقي أن يقدرا ما حذف من الجملة المنطوقة بالفعل، وأن يكتشفا الفرق بين ما يقال بالفعل، وما يجوز قوله لغةً. وبذا يكون الحدس وسيلة ناجعة يمكن للغوي الاعتماد عليها في الحكم على المادة اللغوية، وتفسيرها. وقد أدت هذه الآراء إلى صبغ البحث اللغوي بصبغة مُغرقة في التجريد، وقدمت هدفا جديدا للبحث اللغوي يتجاوز مجرد الوصف للمادة المدروسة إلى تفسيرها، إضافة إلى كونها لفتت الانتباه إلى أهمية المعرفة اللغوية للمتكلمين السليقيين كما هي موجودة في أذهانهم، وليس كما ينطقونها بالفعل.
ولكنّ أفكار تشومسكي انتكست بظهور ما يعرف بعلم التخاطب pragmatics الذي يترجمه بعض اللسانيين العرب بالذرائعية حينا، وبالتداولية، أو النفعية حينا آخر، وهي تراجم غير موفقة؛ لأن هذا المصطلح (وهو إغريقي الأصل) يفسره الغربيون بأنه علم الاستعمال the science of use، الذي يتفق تماما مع مباحث الاستعمال المقابلة لما يعرف بالوضع عند علماء أصول الفقه، والبلاغيين العرب القدماء. وعلى الرغم من أن الاستعمال في التراث العربي، والإسلامي لم يصبح علما لغويا مستقلا كما حدث للوضع، فإن تسمية pragmatics بعلم الاستعمال قد تكون أفضل من غيرها مما ذكر، وإن كنت أفضّل ترجمته بعلم التخاطب، وهي ترجمة تراعي "ماصدق" اللفظ لا "مفهومه" بالمعنى المنطقي للمصطلحين، حيث يقصد بمباحث الاستعمال ما يدخل في إطار المباحث التخاطبية تماما. وبغض النظر عن ترجمة اسم هذا العلم إلى العربية فإن ما ينبغي ذكره هنا يتلخص في أن المهتمين بعلم التخاطب يرون أن دراسة القولات اللغوية بمعزل عن السياقات التي تستخدم فيها أمر غير سليم على الإطلاق، فالسياق، وعناصر خارجية أخرى كالمخاطِب، والمخاطَب، وما قيل سابقا، ومعارفنا، وخبراتنا السابقة، والعناصر المكونة للمقام التخاطبي، وقدرة المتخاطبين على الاستنتاج لا يمكن إغفالها في التوصل إلى الفهم السليم لكلام المتكلم، وبلوغ تخاطب ناجح.